الربيع العربى وموضوع القضاء

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 7 نوفمبر 2013 - 11:47 ص بتوقيت القاهرة

هناك حاجة لوضع تصوُّر عَّما يعنيه استقلال القضاء، استقلاله عن الخضوع للسلطتين التنفيذية والتشريعية وتدخُّلاتهما.

منذ أن هبَّت رياح الربيع العربى فى تونس وإلى يومنا هذا وجدت أنظمة الحكم العربية نفسها منشغلة ليل نهار بنصب خشبات مسارح المحاكمات فى محاكم العرب، عبر طول وعرض الوطن العربى كلُه. لم يسلم قطر عربى واحد من المشاركة فى التأليف أو التمثيل، فى الإضحاك أو الإبكاء، فى الهرج والمرج. والظاهر أننا سنعيش ذلك عبر سنوات كثيرة مقبلة.

بعد اليوم ستواجه المجتمعات العربية قوانين مكافحة الإرهاب والتى بسبب تطرُّف مخاوفها المريضة وهلوساتها قد تصبح هى بدورها قوانين إرهابية. بعد اليوم سيكون كلُ متظاهر معارض عرضة للمحاكمة بسبب توقيت ومكان وشعارات المظاهرة وهتافات المتظاهرين. بعد اليوم سيتّعرض كلٌ صاحب رأى للإعدام المعنوى ثم يجرجر إلى مسارح المحاكم. بعد اليوم لن يستطيع أحد أن يضرب عن العمل لأسباب سياسية، إذ سيحاكم لأنّه أضرّ بسيرورة الحياة الاقتصادية. بعد اليوم ستمتلئ الأرض العربية بمحاكمات الثَارات المتبادلة، إذ كلما ستجىء أمُّة ستلعن أختها.

هل نبالغ ؟ أبدا، فالأرض العربية ستحتاج إلى مئات الألوف من القضاة والمحامين لمواجهة موجة المحاكمات العاتية.

 

من هنا فإن موضوع القضاء والقضاة، مواضيع من مثل سلطاتهم، مدى استقلاليتهم، مقدار تأثُّرهم إن لم يكن خضوعهم للسلطتين التنفيذية والتشريعية، مدى تأثُّر أحكامهم بولاءاتهم العائلية أو المذهبية أو القبلية، النظام الإدارى والمالى الذى يحكم تعيين القضاة ورواتبهم وترقياتهم ومساءلتهم.. هذا الموضوع أصبح لا يقلُ أهمية عن موضوع الانتقال إلى الديمقراطية وموضوع الحكم الرشيد.

لماذا أهمية طرح مواضيع القضاء والقضاة ذاك ؟ لأنُ هناك دلائل على أن مؤسسة القضاء العربية، مع الاختلاف بالطبع فى الحجم والشدَّة، مصابة بعلل جوهرية. فهناك إشكاليات عدم الكفاءة أو عدم النّزاهة أو عدم الاستقلالية عند البعض. وهناك إشكاليات الرَّشوة وبيع الضمائر والخضوع لتوجيهات رجالات السياسة والعسكر والأمن وأصحاب المال. وهناك إشكاليات انغماس البعض فى الصّراعات الدينية والمذهبية والقبلية والعشائرية والعرقية والأيديولوجية.

وفى المدة الأخيرة أطلّت علينا بشكل مفجع إشكالية محاكمة المدنيين فى المحاكم العسكرية وعلى أيدى عساكر موالين للمؤسسة التى ينتمون لها ولصرامة وتزمُت منهجية تفكيرها.

ويضاف إلى كل ذلك ندرة برامج التدريب الدورى وإعادة التأهيل لمن يحتاجونه، بحيث ننتهى بأعداد متزايدة من ممارسى أصولية قانونية عفا عليها الزمن ومن عاجزين عن الانفتاح والمتابعة لمستجدات العصر فى حقل يزخر بالتغييرات الكبرى.

بسبب أهمية هذا الموضوع وانعكاساته على الملايين من العرب فى المستقبل القريب، وبسبب عدم إيلائه ما يستحق من مكانة فى النقاشات السياسية الدائرة حاليا، إذ تطغى المناقشات السياسية والاقتصادية، وبسبب التعامل مع الموضوع بعموميات من المطالب من مثل القضاء المستقل النزيه العادل، بسبب كل ذلك هناك حاجة ملحة لأن تضع قوى ثورات وحراكات الربيع العربى هذا الموضوع فى مقدمة قائمة برامجها التى تطرحها.

 

المطلوب ليس طرح الأوصاف النظرية العامة، على أهميتها، ولكن المطلوب هو طرح برامج محدّدة لمعالجة هذا الموضوع الحيوى.

هناك حاجة لوضع تصوُّر عَّما يعنيه استقلال القضاء، استقلاله عن الخضوع للسلطتين التنفيذية والتشريعية وتدخُّلاتهما. إن استقلال القضاء يأخذ اشكالا تنظيمية مختلفة فى مجتمعات العالم. ومع ذلك يجب أن يبقى الجوهر المتمثٍّل فى تمتٌّع القاضى بالحرية والاستقلال فى تفكيره وفى إصدار الأحكام وفى فهم روح القوانين. ومن أجل تأمين ذلك الاستقلال ستكون هناك حاجة لأنظمة تتعلق بالجهة التى تعّين القضاة وبالاطمئنان الوظيفى للقاضى مهما كانت الأحكام التى يصدرها لا تتوافق مع رغبات هذه الجهة أو تلك، وكذلك بالقضايا المالية والترقيات والعلاقات مع الرؤساء القضاة.

ولن يكفى أن يكون القضاء مستقلا، بل لابدُ أن يكون نزيها عادلاُ، قابلا للمحاسبة إذا أخفق فى أن يكون كذلك. وهذا بدوره سيحتاج لنظام صارم عادل للمحاسبة والإعفاء إن لزم الأمر. وقد يحتاج كل ذلك لاقتراح تعديلات فى الدساتير والقوانين.

نحن أمام مهمّة لن تكون أقلّ أهمية وحاجة للتفصيل عن مهمّات وضع تصورات برنامجية للديمقراطية التى نسعى لها أو لنوع الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية العادلة التى نرنوا لتحقيقها.

 

معيار الحكم على القضاء أوجزه حديث نبى الإسلام (صلى الله عليه وسلم) من أن «القضاة ثلاثة: رجل علم الحق فقضى به فهو فى الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار، ورجل عرف الحق فجار فهو فى النار».

ومعيار قوة واستقلال القضاء أوجزه أحد قضاة المحكمة العليا الأمريكية، القاضى ثرجود مارشال، من «أننا يجب ألا ننسى قط بأن مصدر القوة الوحيد للقضاة هو مقدار احترام الناس لهم».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved