انتقال سياسى طويل

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 7 نوفمبر 2015 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

فى تاريخ الشعوب لابد أن تقع فترة تحولات وتقلبات سياسية طويلة الأجل، تكون عادة مرتبطة بقدر عال من عدم اليقين والثقة والخوف، وقطعا تختلف درجة سلميتها بين تجربة وأخرى، ولكن التاريخ دائما يخبرنا أن الشعوب والنخب عادة لا تتعلم إلا بالدماء! صحيح أنها حقيقة مفزعة ولكنها تظل مجرد حقيقة لا نملك إزاءها إلا الدعاء أن تتعلم الشعوب والنخب والسلطة بشكل أسرع حتى لا تتسع الدماء والتقلبات إلى أكثر من ذلك.
مصر تمر بتلك المرحلة حاليا، بدأ الانتقال فى يناير ٢٠١١ وسيستمر فى تقديرى لعقدين أو ثلاثة حتى ترسو سفينة مصر إلى مرفأ الاستقرار، البناء السياسى الجديد، العقد الاجتماعى المنتظر، الدولة الجديدة والتى يمكن وبحق أن نسميها الجمهورية الثانية. مصر مازالت تعيش على أنقاض دولة يوليو ١٩٥٢ والجمهورية التى تأسست فى ١٩٥٣ وهى الآن تتآكل وتتحلل ويصر البعض بسبب ضيق الأفق على أن يبعثها من جديد.
لن تبعث دولة يوليو من جديد مهما فعلتم وستظل آخذة فى التحلل لأن بناءها وهياكلها وسياساتها لا يمكن أن تصمد أمام رياح التغيرات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية التى تشهدها المنطقة العربية والعالم بأسره، ومن ثم فقد بدأ البناء فى الانهيار فى يوليو وسيستمر مهما حاول مجموعة الهواة الذين تبادلوا موقع السلطة منذ يناير مقاومة الرياح. ليس فى المسألة أى عبادة ليناير أو تقديس للفاعلين الذين عبروا عنها، ولكنها حقائق التطور السياسى والتاريخى والاجتماعى الذى يحاول البعض تجاهلها، ولن يفيدهم التجاهل والالتفاف سوى ربما اكتساب بعض الوقت الذى ربما يؤجل الانتقال بعض الشىء ولكن لن يمنعه، فقط سيزيد من تكلفته للأسف.
لم أعد أشغل بالى كثيرا بالأوضاع الحالية، ليس لأنها غير مهمة أو غير مؤثرة، ولكن لأنى وصلت إلى نفس القناعة التى وصلت إليها مع حكم جماعة الإخوان المسلمين قبل ٣٠ يونيو بأربعة أشهر وتحديدا فى ٢٤ فبراير ٢٠١٣ فى مقالة كتبتها فى «الشروق» بعنوان «هل يصمد الإسلاميون فى حكم مصر» حيث توقعت أنهم لن يصمدوا كثيرا وأن سقوطهم سيكون بأيديهم هم قبل أن يكون بأيدى غيرهم، أقول توصلت إلى نفس هذه القناعة اليوم ولكن الفرق أنى لن أبذل مجهودا هذه المرة فى النصح والإرشاد والرجاء بإنقاذ الوطن قبل فوات الأوان لأن هذا ما كتبته وكتبه غيرى طويلا بلا أى صدى أو معنى لدى السلطة أو المؤيدين لها، فأفضل هذه المرة أن أتحدث فيما قد يفيد لاحقا.
***
أكتب اليوم عن مبادئ سياسية تمثل فى تقديرى الحد الأدنى لأجندة سياسية تمثل بوصلة (غير محصنة بكل تأكيد من المراجعة والنقد والتفنيد) للعمل السياسى المشترك بين القوى السياسية فى فترة قد تكون قريبة أو بعيدة، لم يعد يهم.
يجب أن نبدأ من الآن التجادل حول التزام القوى السياسية المتدافعة مستقبلا بما يلى:
أولا: بوحدة الأراضى المصرية واحترام حدودها وسيادتها المبنية على أسس قومية. وهو ما يعنى اتفاقا من كل القوى السياسية الملتزمة بهذه الأجندة على احترام الدولة القومية المصرية مع عدم قبول أى مشاريع سياسية قد تسعى إلى التقسيم أو إلى تجاوز الدولة القومية فى ترتيبات إقليمية تقوم على أسس دينية.
ثانيا: بتعددية الدولة المصرية والتى تعنى الاعتراف بالحقوق الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل مواطنيها بلا تمييز وفى ظل الالتزام بالدستور والقانون وبالأعراف الدولية. وهو ما يعنى رفض أى خطاب تيميزى لأى فاعل سياسى ضد أى مواطن أو مجموعة من المواطنين تحت دعاوى دينية أو أخلاقية أو غير ذلك.
ثالثا: بمبدأ الديموقراطية التشاركية والذى يوفر حدا أدنى من فرص التمثيل السياسى لكل طوائف وفئات المجتمع فى مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية على المستويين القومى والمحلى. وهو ما يعنى التزام القوى السياسية بمناقشة مجموعة من الإجراءات التى تكفل منع سيطرة أى حزب أو فصيل سياسى على العمل التشريعى (القومى أو المحلى)، كمناقشة قوانين انتخابية غير تقليدية تمنع أى حزب أو قائمة أو ائتلاف من المنافسة على نسبة تزيد على ٢٥٪ من المقاعد المخصصة للبرلمانات والمجالس المحلية لفترة انتقالية مؤقتة قد تمتد لعشر سنوات، أو لدورتين برلمانيتين، مع إعطاء تميز ايجابى للفئات الأقل حظا فى التمثيل السياسى كغير المسلمين والمرأة والشباب وذوى الاحتياجات الخاصة لنفس الفترة الانتقالية المؤقتة، مع مناقشة قواعد مماثلة فى تمثيل فئات المجتمع المختلفة فى المؤسسات التنفيذية.
رابعا: بالانخراط فى عملية تشاركية طويلة لصياغة ثلاث وثائق سياسية فى خلال فترة العشر سنوات، الأولى هى وثيقة «العدالة الانتقالية» والتى تحدد مبادئ المحاسبة السياسية وجبر الضرر لكل من تضرر جنائيا وسياسيا واجتماعيا من كل السلطات السياسية التى تعاقبت على حكم مصر منذ عام ٢٠١٠ وحتى تاريخه. أما الثانية، فهى وثيقة «العقد الاجتماعى» والذى سيرسم فلسفة جديدة للعلاقة بين السلطة «الدولة» والمجتمع، كما سيحدد شكل وهندسة بناء الجمهورية الثانية لتجاوز هياكل وسياسات وانحيازات دولة التحرر الوطنى، وأخيرا صياغة دستور دائم للبلاد بعد نقاش مجتمعى معمق يبنى على فلسفة ومبادئ الوثيقتين سالفتى الذكر. يراعى فى ذلك كله تشكيل لجان حوار مجتمعى على مستوى لا مركزى لتمثيل محافظات الجمهورية المختلفة مع تمثيل كل القوى السياسية والحزبية والمدنية والنقابية.
خامسا: بالدخول فى عملية تفاوض مع المؤسسة العسكرية وغيرها من المؤسسات الأمنية للاتفاق على مبادئ تقسيم السلطة فى فترة العشر سنوات، تلتزم هذه المفاوضات بضمان: (١) التوازن فى عملية تمثيل المدنيين والعسكريين فى مؤسسات الدولة المختلفة، (٢) إنشاء مؤسسات تعليمية وبحثية مشتركة بين المدنيين والعسكريين لتعميق الفهم المتبادل ومشاركة القيم المدنية والعسكرية بين الطرفين نحو خطوة أبعد لبناء ثقة ولغة تواصل مشتركة بين الطرفين، (٣) ابتعاد الجيش وكل أفراده العاملين أو الذين لم يفت على استقالتهم من المؤسسة فترة خمس سنوات عن ممارسة السياسة (تشريعا أو تنفيذا) بشكل مباشر مع استمرار تمثيلهم بشكل متوازن مع المدنيين فى مؤسسات ومجالس الأمن القومى التى قد يتم الاتفاق على إنشائها لاحقا، (٤) تمتع المؤسسة العسكرية باستقلالية مؤسسية توفر لهم الحق فى التصرف بشكل منفرد فى قواعد الترقية والثواب والعقاب الداخلى، مع تمتعهم باستقلالية أخرى فى ممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة مع الاتفاق على حق البرلمان ولجنة الأمن القومى به من مناقشة ميزانية المؤسسة بضمانات تراعى ما قد تبديه الأخيرة من حساسيات بخصوص بعض قواعد الانفاق المتعلقة بالأمن القومى، (٥) اقتصار سلطة المحاكم العسكرية على العسكريين العاملين بالخدمة مع الاتفاق على انشاء دوائر قضائية خاصة بها قضاة مدنيين وعسكريين لمحاكمة الأشخاص المدنيين الذين يتم اتهامهم بانتهاك قواعد الأمن القومى مع وضع تعريف أكتر تحديدا ودقة للماهية الأمن القومى وماهية انتهاكه.
سادسا: الالتزام باتخاذ خطوات لإصلاح أجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة فى ضوء الالتزام بثلاثة مبادئ: (١) أن تكون هذه الإصلاحات جذرية وشفافة، (٢) أن تتم هذه الإصلاحات فى ظل الالتزام بوحدة مؤسسات الدولة وعدم تقسيمها أو تفتيتها، (٣) ألا يتم هذا الإصلاح لصالح أو بأسلوب يمكن أى فصيل سياسى من السيطرة على هذه المؤسسات أو اخضاعها لحسابه أو توجيهها لخدمة أجندته السياسية.
سابعا: التزام السلمية، وفصل الأعمال الدعوية عن السياسية فصلا تاما على المستويات المؤسسية والسياسية هو شرط أساسى لا تنازل عنه لأى فصيل سياسى يريد الانخراط فى تلك العملية الانتقالية الطويلة، مع اتفاق القوى السياسية على قواعد استبعاد أى فصيل سياسى لا يلتزم بأى من المبادئ السابقة من العملية السياسية فى أطار احترام القانون والدستور ومبادئ حقوق الإنسان.
***
لا يهم كثيرا متى؟ لكن الأهم هو كيف؟ التسرع أو الاندفاع لتغير الأوضاع السياسية لتحقيق انتصارات مؤقتة دون وجود قوى سياسية ومجتمعية تتمكن من الضغط والتدافع لتغير المعادلات السياسية لن تغير كثيرا من الأوضاع السياسية المصرية الحرجة، لكنها فى الواقع قد تزيدها بؤسا، التغيرات التاريخية لا تحدث بالأمانى أو الأحلام أو انتظار المخلصين القوميين أو حتى بالرغبة فى الثأر، ولكنها تكون عادة وليدة التفاعل بين حتميات تاريخية تتمتع بقدر ما من العشوائية وقوى سياسية واجتماعية قادرة على توجيه المسار واخضاعه لحسابات بشرية وضعية تتحكم فى مقدار هذه العشوائية، وأتصور أن المبادئ السابقة قد تشكل أساس خاضع للنقد والتعديل والإضافة والحذف، يساعد فيما بعد فى خلق عملية تفاعلية تتدافع فيها قوى سياسية ومجتمعية وسلطوية صراعا تارة وتفاوضا تارة أخرى فى فترة انتقالية طويلة نسبيا تنتهى أخيرا ببناء جمهورية ثانية تليق بحضارة ضاربة بجذورها فى التاريخ.

مدرس النظم السياسية المقارنة، جامعة القاهرة.

اقتباس
الاندفاع لتغير الأوضاع السياسية لتحقيق انتصارات مؤقتة دون وجود قوى سياسية ومجتمعية تتمكن من الضغط والتدافع لتغير المعادلات السياسية لن تغير كثيرا من الأوضاع السياسية المصرية الحرجة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved