المساجلة الأمريكية الكبرى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 7 نوفمبر 2018 - 11:30 م بتوقيت القاهرة

حدث ما كان متوقعا فى الانتخابات النصفية لمجلسى الكونجرس الأمريكى.
بدا الأمر كله كما لو أنه استفتاء على «دونالد ترامب» وسياساته وخياراته بعد عامين من رئاسته وما إذا كان ممكنا أن يبقى على مقعده فى الانتخابات الرئاسية المقبلة عام (2020).
بالحصاد الانتخابى سيطر الديمقراطيون على مجلس النواب وحافظ الجمهوريون على أغلبيتهم فى مجلس الشيوخ.
وبالحصاد السياسى تعرض «ترامب» إلى هزيمة سياسية فى الغرفة الأولى تربك أجندته وخططه التشريعية وتقوض فرصه فى إعادة انتخابه وقد تعرضه للمساءلة واحتمالات العزل على خلفية التحقيقات فى التدخل الروسى بالانتخابات الرئاسية التى صعدت به إلى البيت الأبيض، غير أن الهزيمة لم تكن كاملة بالنظر إلى نتائج الغرفة الثانية.
فى أحوال أنصاف وثلاثة أرباع الهزائم تتباين القراءات والاستنتاجات وفق المواقع المختلفة.
بنظر الديمقراطيين فـ«إنها صفحة جديدة فى التاريخ الأمريكى» ـ حسب تعبير «نانسى بيلوسى» أقوى المرشحين لرئاسة مجلس النواب.
هذه إشارة مبكرة لحجم القيود المتوقعة التى سوف تفرض على إدارة «ترامب» تشريعا ومساءلة نيابية.
وبنظر الجمهوريين فإنها «نجاح هائل» حسب تدوينة لـ«ترامب» نفسه.
ربما اعتبر أن الإفلات من «موجة زرقاء» ـ نسبة إلى لون الحزب الديمقراطى ـ تكتسح المجلسين معا بذاته انتصارا هائلا.
ما حدث بحجمه وأثره يتجاوز مثل هذه الاستنتاجات المباشرة.
لم تكن مصادفة نسبة الإقبال العالية على صناديق الاقتراع خاصة من النساء والشباب والأقليات ولا مدى الاهتمام الدولى بما تسفر عنه من نتائج تؤثر على موازين القوى فى رسم السياسة الأمريكية ولا دخول الرئيس بنفسه لأول مرة فى التاريخ الأمريكى طرفا مباشرا فى انتخابات التجديد النصفى ولا دخول سلفه «باراك أوباما» طرفا مواجها فى الحشد والتعبئة.
تلك مظاهر تشير إلى ما تمثله الانتخابات النصفية من أهمية فى تقرير المستقبل السياسى الأمريكى، غير أنها تكشف فى نفس الوقت ما تحت السطح السياسى من تفاعلات أعمق وصدامات أوسع.
بترجمة أخرى فإنها تعكس مساجلة كبرى تتفاعل حقائقها وتتمدد بالضرورة إلى ما بعد الانتخابات حول نظرة أمريكا لنفسها ودورها ومستقبلها والصورة التى تود أن تبدو عليها.
نحن أمام مجتمع منقسم تتنازعه أزماته لا يعرف إلى أين يتجه ولديه مشكلة فى تعريف نفسه.
هناك أزمة التمييز العنصرى ضد الأقليات السوداء واللاتينية والمسلمة تجلت فى تعبيرات رئاسية وأزمة فى النظر إلى اللاجئين رغم أن طبيعة نشأة المجتمع الأمريكى تأسست على فكرة اللجوء إلى أرض الفرص أخذت مداها فى تهديد «ترامب» بإطلاق الرصاص الحى على قافلة مهاجرين قادمة من المكسيك وأزمات أخرى زادت حدتها فى السجال السياسى الداخلى مثل إباحة شراء السلاح بلا قيود والرعاية الصحية وإدارة الاقتصاد.
تسود تقليديا القضايا الداخلية أية انتخابات أمريكية، غير أنه ـ هذه المرة ـ ألقت السياسة الخارجية بظلال كثيفة على المشهد المنقسم حول الطريقة التى تنظر بها أمريكا إلى دورها فى عالمها ومدى احترامها لنفسها.
هناك صدامات استراتيجية واقتصادية متكررة مع الحلفاء الأوروبيين فى ملفات عديدة وصلت ذروة تداعياتها بدعوة الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» الاتحاد الأوروبى للبحث عن استراتيجية دفاعية جديدة بعيدا عن الولايات المتحدة، وحروب تجارية مفتوحة مع الصين ودول آسيوية حليفة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى كندا، دون تقيد بأية اتفاقيات موقعة.
من العدو؟.. ومن الحليف؟
غابت أية إجابة لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التى انقسم العالم بعدها إلى معسكرين كبيرين، أحدهما تقوده الولايات المتحدة والآخر يقوده الاتحاد السوفييتى، وكان الانقسام شاملا استراتيجيا وأيديولوجيا واقتصاديا وعسكريا.
فرضت الولايات المتحدة قيادتها على المعسكر الغربى بالدور الجوهرى الذى لعبته فى حسم النتائج العسكرية للحرب العالمية الثانية وبقدرتها الاقتصادية الفائقة التى ساعدت فى إعادة إعمار أوروبا المهدمة والصورة التى صنعتها ومضات الكاميرات فى هوليوود.
الحقيقة الكامنة فى التفاعلات الأمريكية، التى صاحبت انتخابات التجديد النصفى، أن النظام الدولى الذى تولد بعد الحرب العالمية الثانية يلفظ أنفاسه الأخيرة دون أن تتضح صورة النظام الجديد.
فى المسافة بين قديم تهدم وجديد لم يعلن عن نفسه تأخذ المساجلة الأمريكية الجارية قيمتها التى تتجاوز «ترامب» ومستقبله.
فى ذروة الصعود بعد الحرب العالمية الثانية بدا الرئيس «هارى ترومان» مأخوذا بحجم ما يملكه من قوة غير مسبوقة فى التاريخ: «لم أكن أتصور أن الرئيس الأمريكى لديه من السلطة أكثر مما كان للإسكندر الأكبر ولقيصر وجنكيز خان ونابليون ولويس الرابع عشر مجتمعين» ـ كما كتب فى يومياته.
كانت تلك مبالغة استندت إلى شىء حقيقى استدعى الإقرار الغربى بالزعامة الأمريكية فى سنوات الحرب الباردة.
عند سقوط سور برلين وانهيار الاتحاد السوفييتى انفردت الولايات المتحدة بحسابات القوة وشاعت أفكار «نهاية التاريخ» كأنه استقر على شاطئ أخير.
كانت تلك مرحلة مضطربة لم يتأسس فيها نظام دولى جديد غير أن الحقائق أكدت فى النهاية أنه يستحيل أن تنفرد قوة واحدة بمصائر الدنيا، أو أن تكون للتاريخ نهاية.
اتسع ذلك الاضطراب بتدهور الطبقة السياسية الأمريكية وارتفاع منسوب الشعبوية فى المجتمع نفسه.
كان «ترامب» بخلفيته وتكوينه أحد تعبيرات الاضطراب السياسى الأمريكى الطويل فى عالم ما بعد الحرب الباردة.
لم ينشأ من فراغ ولا اكتسب شعبيته فى الأوساط البيضاء المتطرفة بمصادفة.
مثلت شخصيته مادة صدام شبه يومية مع «الميديا» فى بلاده والديمقراطيين وأطياف سياسية واجتماعية عديدة، فهو يفتقد إلى مقومات الشخصية الرئاسية، عشوائى فى تصريحاته ومتناقض مع ما هو مستقر من قيم حديثه.
بنص تدوينه كتبها بأعقاب إعلان نتائج الانتخابات النصفية: «كنت أتمنى أن تكون لغتى أقل حدة فى العامين الماضيين».
كان ذلك اعترافا بمدى عشوائيته، لكنه لم يكن محض اختيار.
العشوائية من طبائع الشعبوية.
مشكلة أمريكا أن نخبها الإعلامية والأكاديمية والثقافية والفنية تجد نفسها الآن أمام المرآة قبيحة وسوقية ولا تقدر على احترام نفسها.
من المستلفت أن سنتى «ترامب» فى البيت الأبيض شهدتا تحسنا كبيرا فى المؤشرات الاقتصادية الأمريكية ـ ارتفاع فى معدل النمو وفرص العمل وانخفاض فى نسب البطالة والتضخم، وكان ذلك سنده الرئيسى فى الحملات الانتخابية التى جرت غير أنه لم يكن كافيا لطمأنة قطاعات واسعة من الأمريكيين أنهم على الطريق الصحيح، أو أن بلدا فى حجم أمريكا يليق به أن يحكمه رجل بمواصفات «ترامب».
فقدت القوة الأمريكية هيبتها واستحالت إلى ابتزاز صريح للحلفاء، فللحماية أثمانها المدفوعة.
كان ذلك مباشرا وفجا فى أحاديث «ترامب» المتواترة عن حماية السعودية، وسوف ترتفع نبرة ابتزازه ثمنا مضافا على فاتورة مقتل الصحفى السعودى «جمال خاشقجى».
الهزيمة الانتخابية لـ«ترامب» رغم مكابرته لا تعنى أن دفة الحوادث فى الشرق الأوسط سوف تأخذ اتجاها آخر فى أى مدى منظور.
الأغلب أن يبحث عن مهرب ما من أزماته الداخلية المرشحة للتفاقم، وأنه سوف يكون هنا عندنا.
«صفقة القرن» عنوان أول، وتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل مجانيا عنوان ثان، والسعى لبناء تحالف استراتيجى عربى يضم إسرائيل ضد «العدو الإيرانى المشترك» عنوان ثالث.
العناوين الماثلة تنطوى على رهان أن الحزب الديمقراطى لن يمانع فيها حتى لو دعا خطابه الرسمى إلى حل الدولتين واحترام الاتفاقيات الدولية، أو خطأ إلغاء الاتفاق النووى مع إيران من طرف واحد.
إذا لم ندرك حقائق القوة فى المساجلة الأمريكية الكبرى التى انعكست فى الانتخابات النصفية فسوف نكون من ضحاياها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved