روايات يناير

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 7 ديسمبر 2014 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

حكما محكمة الاستئناف فى قضية قتل المتظاهرين فى يناير 2011 وفى قضية تصدير الغاز لإسرائيل يمكن أن يقال الكثير عنهما، بعض منه نشرته الصحافة فى الأيام الأخيرة على أنه مبررات ستستند إليها النيابة فى طلب نقض الحكمين، والبعض الآخر قد تضيفه النيابة وقد لا تضيفه. والنيابة العامة تنبه، على ما ورد فى الصحافة أيضا، إلى تجاهل شهود الإثبات، فضلا عن وجود أخطاء فى الاستدلال. على سبيل المثال، اعتبرت المحكمة أن عدم ضم الرئيس الأسبق إلى المتهمين بقتل المتظاهرين منذ قرار الاتهام الأول الصادر عن النيابة يفيد بأنها لم تعتبره مسئولا عن الجريمة، وبالتالى فإنه لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ضده. ويمكن استخلاص أنها رأت ضمنا أن ضمه فى فترة لاحقة كان لأسباب سياسية. ولكن لماذا لم تعتبر المحكمة أن عدم ضم الرئيس الأسبق إلى المتهمين منذ البداية هو الذى رجع لأسباب سياسية؟ على أى حال، حتى أولئك الذين وجه الاتهام لهم منذ البداية برأتهم المحكمة، وليس هذا على أى حال مجال التعليق على المنطق القانونى لبعض حيثيات الأحكام الصادرة عنها.

الجمهور، ليست هامة الحيثيات بالنسبة إليه، وهو لا يعنى كثيرا بالتوصيف القانونى للأحكام، سواء كانت عدم إمكان إقامة الدعوى أو أخطاء إجرائية، أو سقوط الدعوى بالتقادم. جمهور الناس ينتظر قضاء من المحاكم، وهو فى أغلبه لا يعير اهتماما كبيرا للتحليلات السياسية التى يمكن أن تصدر عنها، لأن التحليل السياسى ليس فيه قول فصل وهو ليس مما يقضى فيه. فى أعين الجمهور، كل الجمهور، وبالنسبة للصحافة نفسها، الأحكام كانت بالبراءة، براءة جميع المتهمين من كل ما نسب إليهم.

•••

هذه البراءة انقسم الناس حولها إلى فريقين، فى داخل كل منهما أطياف ألوان كثيرة. لكل من الفريقين رواية مشتركة حول وقائع يناير 2011 والأسباب المؤدية إليها، وفى داخل كل رواية صياغات تختلف فى تفاصيل الجزئية باختلاف أطياف الألوان. يوجد فريق ثالث هو فريق الإخوان المسلمين وأنصارهم، ولهم أيضا روايتهم.

الفريق الأول فرح بالحكم وهو فى روايته اعتبر أن وقائع يناير كانت مؤامرة مدبرة، ليس ضد الرئيس الأسبق وطاقم حكمه وممارساته فقط، بل مؤامرة ضد مصر أوقفت إنجازات سياسية واقتصادية، مؤامرة دبرها تحالف من الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران وحماس وحزب الله، وهى مؤامرة كان أدواتها شباب تلقى المال من مصادر أجنبية من وراء واجهة منظمات غير حكومية تتجاهل مصالح الوطن، وتدعو إلى قيم غريبة على ثقافة المجتمع وتفتته. فى يناير 2011 كانت السياحة على أشدها، وكان النمو الاقتصادى فى عنفوانه، وكان الشعب موحدا فى برلمان متماسك لا صوت فيه يقسمه. المؤامرة كان هدفها تدمير ذلك كله وهدم الدولة. بعض أصحاب هذه الرواية يشعر بتعاطف إنسانى صادق مع الرئيس الأسبق، إلا أن أغلبهم لا يعنيهم كثيرا أمره. البعض من هؤلاء حريص على امتيازات ووجاهة اجتماعية، ولكن البعض الآخر، وهو الأكثر تأثيرا فى الحياة السياسية والاقتصادية، اعتبر أن الحكم تبرئة لممارسات النظام السياسى لما قبل يناير ولسياساته، والتبرئة شهادة لصلاحية الممارسات والسياسات وتوطئة للعودة إليها.

رواية الفريق الثانى على النقيض من الرواية الأولى، وأطياف ألوانها بين المتمسكين بالتعددية والمهاودين فيها لاعتبارات خاصة بمواجهة العنف والإرهاب. فى الصيغة القصى لهذه الرواية، وقائع يناير هى تجليات ثورة على ماقبلها من وضع اقتصادى واجتماعى بائس، تدهور فيه التعليم وانتشرت الأمراض، ثورة على الانفراد بالسلطة السياسية وعلى التلاعب بالنظام السياسى وكبت الحريات والقمع، ثورة على احتكار الثروة الاقتصادية وعلى سوء توزيع الدخل والفساد، ثورة على البطالة والفقر والعشوائيات وفوضى الطرق وقتلاها، ثورة على جدب الفكر والثقافة وعلى الاستسلام لأفكار الظلام والتخلف. أعضاء هذا الفريق يعتبرون أنهم كانوا أصل الثورة على نظام ما قبل يناير، وأن شبابا منهم هم الذين أشعلوا فتيلها. فى هذه الرواية الثانية، وبفوارق فى التشديد على كل واحد من الأهداف، الثورة كانت من أجل الخبز والحرية والعدالة، من أجل التعددية والديمقراطية والمساواة وعدم التمييز بين المواطنين، ويرى أعضاء هذا الفريق أن شعارات يناير هى خير بيان على سلامة روايتهم. بعض أعضاء هذا الفريق كان لهم ثأر مع الرئيس الأسبق ومعاونيه لأن لهم أبناء أو أشقاء أو أصدقاء سقطوا فى مواجهات يناير، إلا أن أغلب أعضاء الفريق ما كانوا مهتمين بمعاقبة الرئيس الأسبق معاقبة شخصية، بل كان للمحاكمة لديهم قيمة رمزية، فهم رأوا فى مآلها تعبيرا عن موقع يناير فى ضمير مصر وفى ترتيبات الحكم الجديدة.

الفريق الثالث هو فريق الإخوان المسلمين ومن ناصرهم. لأن هذا الفريق ملاحق فى الوقت الحالى وزعماءه فى السجون أو فى المنافى، فإن ظلال الألوان بين أعضائه تبدو مبهمة. فى رواية هذا الفريق، وقائع يناير هى أيضا ثورة ولكنها ثورة هدفها الأول والأساسى هو رفع لواء الإسلام كما يفسرونه وهو لواء رأوا أنه كان مقموعا فيما قبل يناير، هى ثورة هم من أعدّ لها وأنجحها بتنظيمهم وبجهادهم وبتضحياتهم، ثورة سرقت منهم لغدر الفريق الثانى بهم ولتحالفه مع الفريق الأول عليهم. هذا الفريق الثالث تركيزه كله على هدفه أما أهداف من عداه من أنصار الثورة، خاصة أصحاب الرواية الثانية، فهى ثانوية، إن كان يعتد بها أصلا. الإخوان المسلمون ومناصروهم كان يهمهم إدانة الرئيس الأسبق لأن كان لهم قتلى ثم باعتبارها إدانة رمزية لكل ما حاق بهم منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى.

•••

على الرغم من التناقض الصارخ بين الروايتين الأولى والثانية، فإن أصحابهما متفقون على القطيعة مع أصحاب رواية الإخوان المسلمين سواء لأسباب مبدئية، أو بسبب ممارساتهم عندما اعتقدوا أنهم تمكنوا من البلاد ومقدراتها، وإن كان بين أصحاب الرواية الثانية من هم مستعدّون لإعادة إدماج الإخوان المسلمين فى الحياة السياسية إن هم تنازلوا عن دعواهم باحتكار الحقيقة وقبلوا قبولا صريحا بشرعية التعددية الفكرية والتنظيمية.

غير أن التناقض الصارخ بين رواية المؤامرة ورواية الثورة الإنسانية والتعددية، وإساءة أصحاب الرواية الأولى البالغة للرواية الثانية ولأصحابها يجعلان التوفيق بينهما مستحيلا فى ظل التوزيع الحالى للقوة فى مصر.

الهواء الآن فى شراع الرواية التى تعتبر يناير مؤامرة، فالساحة مفتوحة أمام أصحابها والسلطة لا تأنف مناصرتهم لها. ومع ذلك، فإن التوتر بين الروايتين سيبقى قائما ولن تتمكن رواية المؤامرة من إخماد رواية الثورة التعددية والإنسانية. هذه رواية أصيلة، معظم الشباب فى صفها، والمستقبل للشباب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved