الديون.. من المستفيد ومن يتحمل العبء؟

محمود الخفيف
محمود الخفيف

آخر تحديث: السبت 7 ديسمبر 2019 - 11:15 م بتوقيت القاهرة

فى خريف كل عام تصدر الأمم المتحدة «تقرير التجارة والتنمية» الذى يعده مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لمناقشة وتحليل حالة الاقتصاد العالمى والتحديات التى تواجه العالم النامى وبدائل السياسات الاقتصادية التى يمكن أن تواجه هذه التحديات وكذلك التحديات التنموية لعولمة اليوم، المفرطة فى عدم الإنصاف، والتى شكلها ويُشكلها أفكار الليبرالية الجديدة المتوحشة. وقد أُطلِق تقرير هذا العام فى شهر سبتمبر الماضى بعنوان «تمويل اتفاق أخضر عالمى جديد».
ويدعو التقرير صناع السياسات فى العالم النامى إلى التركيز على خلق فرص عمل وزيادة الأجور والاستثمارات الإنتاجية بدلا من هوسهم بالبورصات وأسعار الأسهم وسوق الأوراق المالية واللهث وراء الأمْولة (financialization) التى تسعى للتربح من المضاربة والريع والزيادة التضخمية فى أسعار الأصول. إن ما يُروج عن التقارب الاقتصادى بين دول الشمال ودول الجنوب كلام مبالغ فيه، فالتباعد المستمر فى متوسط دخل الفرد بين الشمال والجنوب هو الأمر الواقع، فبعد أن كان ذلك المتوسط فى الاقتصادات المتقدمة سبعة أضعاف مثيلة فى الاقتصادات النامية (باستثناء الصين) فى سبعينيات القرن الماضى، زاد إلى ما يقرب من عشرة أضعاف فى السنوات الأخيرة.
***
وينعكس هذا الوضع الهش فى صورة تراكم ضخم فى ديون العالم النامى، ومعظمها ديون قصيرة الأجل وبالعملات الأجنبية، وللقطاع الخاص نصيب ملحوظ فيها. وقد بلغ مجموع ديون البلدان النامية فى عام ٢٠١٧ أعلى مستوى على الإطلاق، حيث مثل 190% من الناتج المحلى الإجمالى لهذه الدول، وهذه النسبة المرتفعة للغاية تعكس ضعف القدرة على السداد فى المستقبل، واحتمال عالٍ للتعسر فى السداد.
وفى مصر ارتفعت هذه النسبة من 95 إلى 118% بين السنتن الماليتين 2017/2018 و2018/2019 (الناتج المحلى الإجمالى لمصر كان 5,25 تريليون جنيه فى 2018/2019)، ولكن المشكلة فى الحالة المصرية لا تتمثل فقط فى أن الزيادة الضخمة لهذه النسبة (أكثر من 23 نقطة مئوية) حدثت فى عام واحد، ولكن التحدى الحقيقى الذى قد يؤثر بالسلب فى المدى البعيد، هو أن الإنفاق الحكومى على فوائد الدين فقط (وليس أصل الدين) يمثل أكثر من 36% من كل الإنفاق الحكومى فى موازنة هذا العام، ويستنزف نصف إيرادات الحكومة، وقيمته تساوى مرة وربع قيمة عجز الموازنة. والضرر فى هذا أن أكبر نصيب فى انفاق الحكومة موجه لسداد الدين ولا يتبقى شىء يُذكر لزيادة الانفاق على التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية والاستثمارات التنموية للمستقبل.
وفى عصر العولمة، المفرطة فى عدم انصافها، رُوجَ للديون كالمحرك الفعال للنمو العالمى وبالأخص فى الدول النامية، ولكنها فشلت فى تحقيق دفعة حقيقة فى الاستثمار الإنتاجى، بل أدت إلى مزيد من المضاربات المالية مع توفر السيولة. وفى هذه البيئة شهدت البلدان النامية تحوّل الدين من أداة تمويل طويلة الأجل، تحفز على الاستثمار الإنتاجى وتعزز النمو المستقبلى، إلى أصول مالية محفوفة بالمخاطر خاضعة لتقلبات الأسواق المالية العالمية وتحت رحمة مصالح الدائنين قصيرة الأجل والمتزايدة.
وهذا أمر مثير للقلق لأن التحول الهيكلى فى اقتصاد البلدان النامية المطلوب لتحقيق طموحات الاتفاق البيئى العالمى الجديد وأهداف التنمية المستدامة يحتاج إلى زيادة غير مسبوقة فى تمويل الاستثمار الإنتاجى فى هذه البلدان، وهذا يتطلب مبلغا يتراوح ما بين اثنين إلى ثلاثة تريليونات دولار سنويا، على مستوى العالم، فقط للوصول إلى أبسط أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030 (القضاء على الفقر، وتعزيز التغذية، والصحة الجيدة، والتعليم الجيد). ولذلك يجب تمويل الديون فى البلدان النامية بصورة أكثر استدامة وتخصيص هذه الديون لاستثمارات إنتاجية، واتخاذ إجراءات دولية منسقة وعاجلة لإخراج البلدان النامية من مصيدة الديون الحالية، ودعم الجهود الوطنية لتعبئة الموارد المالية المحلية على نحو أفضل بدل من الاستدانة واستخدامها لأغراض تنموية استراتيجية محافظة للبيئة.
***
وللتعامل مع مشكلة الديون فى العالم النامى من الممكن التفكير فى مجموعة من التوصيات على المستويين الدولى والوطنى. فعلى المستوى الوطنى يجب على كل دولة ألا تقترض إلا لتمويل استثمارات إنتاجية تعود بالنفع على المجتمع والاقتصاد فى المستقبل بما يسمح بخدمة وسداد هذه القروض بيسر وبدون تحميل الأجيال المقبلة عبء ديون لا طاقة لهم بها. ويجب أن يكون للقروض والديون دور أساسى فى تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الاستقطاب بين الغنى والفقر، فمن حيث استخدامات الديون يجب توجيهها إلى استثمارات تستهدف تنمية ورفع مستوى معيشة الطبقات الأكثر فقرا، ومن حيث عبء خدمة الديون يجب أن يتحملها الطبقات الأكثر يسرا عن طريق فرض ضرائب تصاعدية وتبنى نظام ضريبى أكثر إنصافا لكل طبقات المجتمع بما فى ذلك الأجيال القادمة.
وعلى المستوى الدولى، إذا كان هناك جدية فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة فى البلدان النامية، فيجب وضع برنامج عالمى للإقراض ليس فقط بشروط ميسرة، بل بدون شروط صارمة مماثلة لتلك المصاحبة للقروض وبرامج الصندوق والبنك الدوليين، وكذلك اعتماد تسهيلات إقراض إضافية مصممة لتغطية الاحتياجات الحكومية من التمويل الخارجى حتى عام 2030. وكذلك يوصى الأونكتاد بإنشاء صندوق عالمى لدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتمويل «الاتفاق الأخضر العالمى الجديد»، على أن يوفر الموارد المالية لهذا الصندوق الدول المانحة التى لم تفِ بالتزاماتها من المساعدات الإنمائية الرسمية والتى تمثل 0.7 فى المائة من إجمالى الدخل القومى لهذه الدول، والتى كان من المفروض أن تُقَدم كمنح لبلدان العالم النامى فى العقود الأربعة الأخيرة.
ومن المقترح أيضا تقوية التعاون النقدى الإقليمى بين البلدان النامية لإعادة تمويل وتعزيز التجارة الإقليمية والتعاون الفنى داخل كل منطقة، والتحرك إلى أبعد من مجرد اتفاقيات إقليمية لتبادل وتجميع احتياطيات البنوك المركزية. ويجب التفكير الجدى فى إنشاء نظام بديل لتيسير إعادة هيكلة منظمة وتسوية عادلة للديون السيادية التى لم يعد من الممكن خدمتها وسدادها وفقا للعقود الأصلية، يحكمهُ القانون الدولى ومجموعة من المبادئ يُتَفق عليها دوليا.

النسخة الانجليزية للتقرير https://unctad.org/en/PublicationsLibrary/tdr2019_en.pdf، الترجمة العربية ستُرفع لموقع الأونكتاد قريبا.

هذا المقال يعكس رؤية الكاتب وليس بالضرورة رؤية المنظمة التى يعمل بها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved