عنايات كانت هنا

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 7 ديسمبر 2019 - 11:20 م بتوقيت القاهرة

تبرع إيمان مرسال في اقتفاء أثر بطلة كتابها الجديد، مثلما اشتهر بهذا الفن العرب القدماء، وتبرع أيضا في اتباع تركيبة التراجم العربية الكلاسيكية، عندما يخرج الكاتب عن موضوعه يمينا ويسارا، دون أن يمس ذلك بتقنية السرد وتدفقه، فيحكي عن شخصية أخرى شبيهة تعجبه أو تاريخ قبيلة متصلة بالسياق أو يغوص في تفاصيل المرحلة السياسية والاجتماعية، ثم يعود للقصة الرئيسية. تشاركنا هوسها بشخصية عنايات الزيات، الكاتبة المجهولة التي وقعت على روايتها الوحيدة "الحب والصمت" بمحض المصادفة واشترتها من سور الأزبكية في مطلع التسعينات، ومن وقتها تحولت عنايات إلى نداهة تطاردها، حتى بعد أن انتقلت عام 1998 للعيش في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية ومن بعدها في ألبرتا بكندا حيث تدرس الأدب العربي في جامعتها. إيمان مرسال- الشاعرة والأكاديمية- تعرف جيدا أين تطأ قدمها، تملك أدواتها وتصحبنا معها في رحلة بحث شيقة عن صاحبة الرواية التي نشرت عام النكسة، أي بعد انتحار هذه الأخيرة بأربعة سنوات.
تعلن مرسال عن نيتها بوضوح من مجرد اختيار العنوان "في أثر عنايات الزيات" (دار نشر الكتب خان)، كما تدعونا بوضوح لدخول اللعبة معها، حين تقول قرب نهاية الكتاب "دعونا نخلق شيئا عجيبا مثل كتب التراجم العربية الكلاسيكية". وفي مواضع مختلفة تصرح بعواطفها تجاه مفاجأة سارة حدثت خلال البحث أو بتأثرها حين زارت مكان عمل عنايات السابق في مكتبة معهد الآثار الألمانية بالزمالك وقالت لنفسها "عنايات كانت هنا"، وتصف كيف بكت حين زارت مدافن أحمد باشا رشيد ووجدت أخيرا قبر عنايات وكيف صرخ أحد أصدقائها: "وجدتها، تعالي يا إيمان، عنايات هنا". لم تبك حزنا، بل شعرت أن هذه أسعد لحظة في تاريخ علاقاتهما: "أخيرا صدقتني، وسمحت لي بالوصول إليها عبر سلسلة من الصدف السعيدة".
***
رحلة البحث واقتفاء الأثر استمرت لسنوات على فترات متقطعة، وتضمنت لقاءات مع أصدقاء عنايات القدامى وعلى رأسهم الفنانة نادية لطفي التي زاملتها في المدرسة الألمانية بباب اللوق، مع الجيران والأقارب، كما تخللها زيارات لشارع بيتها القديم والأماكن التي كانت تتردد عليها. نستعرض مع إيمان مرسال ما كانت تجده أولا بأول، تقرأ لنا مقدمة رواية "الحب والصمت" بتوقيع مصطفى محمود، وقصاصات الصحف والمقالات التي كتبها عنها أنيس منصور أو حسن شاه أو لطيفة الزيات أو محمود أمين العالم. يشرح الأخيران أسباب اكتئاب وانتحار عنايات الزيات في يناير 1963 وهي في العشرينات من عمرها، في محاولة لإيجاد تفسير أعمق لما كانت تشعر به، دون الاكتفاء بظروف طلاقها من زوجها واستقطابه لابنها الوحيد ورفض الدار القومية نشر كتابها، يربطان اختفاءها بزمن المصائر الجمعية والمناخ العام الذي مر بمصر في فترة الخمسينات والستينات، بعكس فردية جيل التسعينات الذي تنتمي له إيمان مرسال. شددت نادية لطفي في كلامها على أنها وصديقتها الأقرب تنتميان "لجيل الانتقال" الذي سعى للصداقة والحرية، "التطور الاجتماعي كان كبير (...) وكنا زعيمات ومؤمنات جدا بعبد الناصر"، لكن عنايات عاشت وماتت أيضا على الهامش، خارج سياق التبادل الثقافي، لم تكن ضمن مشهد أدبي ولا اجتماعي ولا سياسي، حين كان الناس شعوب وقبائل في بداية الستينات، لا يوجد أفراد بل تكتلات، كما تقول الكاتبة موضحة كيف حدث مع عنايات ما يحدث كثيرا: "يتحول الكاتب الذي لا يستطيع التواصل مع آخرين إلى بطل مسرحي تراجيدي، يتضخم في عزلته إحساسه بالظلم أو بالعظمة أو بانعدام معنى وجوده".
تحاول مرسال أن تحلل شخصية عنايات التي نناديها تدريجيا باسمها الأول كأننا نعرفها، نتعاطف معها حتى لو لم نقرأ كتابها الذي سقط سهوا من التاريخ الأدبي. تتطرق إلى العديد من الحكايات الفرعية المثيرة والتي لا تقل متعة اكتشافها عن قصة عنايات، فنتعرف على شخصيات الجارة مدام نحاس التي لا تمت بصلة لعائلة النحاس باشا، وأحمد باشا رشيد أو ديمتري سابقا الذي جاء إلى مصر أثناء حكم محمد علي ليساعده في بناء الجيش وسلسال العائلة الطويل الذي تنتمي لها أم عنايات، وكايمر عالم المصريات الألماني التي انتوت عنايات كتابة روايتها الثانية عنه، وهو من أسس القسم التاريخي في المتحف الزراعي، وهكذا ندلف من حكاية لأخرى دون أن نمل لحظة، ودون أن نضيع خيط الرواية الأصلي. تحدد أيضا الكاتبة السياق التاريخي من قوانين الأحوال الشخصية المطبقة وقتها إلى جو المؤسسات الثقافية الرسمية وآليات عملها، إلى ما غير ذلك. وتشتبك مع فكرة الأرشيف الجمعي والشخصي، كيف يطمس الأول في لحظة تاريخية تنحط فيها القيم، والثاني حين لا ينسجم مع المحيطين، وكانت هذه هي حالة عنايات، كل شيء تحول إلى سر تحت وصاية البورجوازية، وبعيدا عن الشعور بالذنب أو الغضب، لم يتبق من عنايات سوى السيرة الطيبة التي تريدها أسرة محترمة بعد موت أحد أفرادها: "الصور العائلية. لقد تم تدمير اليوميات في نفس عام موت صاحبتها: أي في سنة 1963 ، ما عدا بعض أوراق سمح ببقائها ونشرها".
***
تدمير أرشيف عنايات الشخصي خيب آمال الكاتبة- الباحثة في البداية التي كانت تحلم بصناديق ملئية بالأوراق والصور تنفض عنها الغبار مثلما فعلت هي عند مراجعة أشيائها الخاصة القديمة، لكن غيابه سمح لها بتتبع أثر ما تم طمسه. و"متتبع الأثر يشبه أحيانا من يبحث في الأرشيف، كل منهما يواجه أشياء متنافرة وعشوائية تحتاج من يتأملها ويجد العلاقات بينها، كل منهما يبحث عن مصداقية في التأويل". وقد استمتعنا بالفعل بهذا البحث والتنقيب والتأويل وبقدرة المؤلفة على استنتاج مكان الفراغات، بشكل لا يسمح للقارئ بترك الكتاب من يده إلا وقد اكتملت أجزاء اللعبة وتراصت جنب بعضها البعض.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved