أزمة القطب الأوحد

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 7 ديسمبر 2020 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

كما توقّع غالبية المراقبين، لم تمر الانتخابات الرئاسية الأمريكية يسيرة سهلة، ولم تمنح تذكرة الدخول إلى المكتب البيضاوى بالبيت الأبيض الأمريكى إلى المرشح الفائز حتى الآن. تنقسم وسائل الإعلام الأمريكية بين طاعن فى نزاهة العملية الانتخابية، مؤمّل فى صدور أحكام قضائية تبطل كثيرا من أصوات البريد، وبين محتف بالرئيس الأمريكى المنتخب «جوزيف بايدن» والذى تلقى بالفعل التهانى على منصبه الجديد من قادة الدول، وحصل فريقه على أحكام قضائية كثيرة تؤكد فوزه بالمجمع الانتخابى فى الولايات التى حسمت لصالحه.
أيام قليلة تفصلنا عن مشهد حتمى لتسليم السلطة، لكن أحدا لا يدرى كيف يأتى ذلك المشهد بينما الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته «دونالد ترامب» مازال يخرج يوميا منددا بنتائج الانتخابات، طاعنا فى الكتلة التصويتية التى احتسبت لخصمه الديمقراطى، حتى سمعته يقول: «من المستحيل أن يحصل بايدن على ثمانين مليون صوت»! هذا التشكيك المستمر أسفر عن استبعاد كل من أكد على نزاهة الانتخابات من الفريق الترامبى، والحرص على الاستخفاف من أصحاب هذا الرأى ولو كانوا من أقطاب الحزب الجمهورى، أو حتى من فريق العمل الرئاسى المقرّب من الرئيس.
***
الأزمة باتت تأخذ أبعادا مقلقة عندما انتقلت عدوى الإنكار والطعن فى آلية تداول السلطة الأهم فى العالم من الرئيس المكلوم وبعض حاشيته إلى كتلة شعبية حرجة، تنتقل أمام عدسات التلفزيون وعبر مواقع التواصل الاجتماعى جازمة بأن نتيجة الانتخابات لم تحسم بعد، وأن الفائز الحقيقى هو الرئيس «دونالد ترامب»! لا أحد يمكن أن يتكهّن بسلوك الشارع إذا ظلت الآلة الإعلامية تشحنه بالغضب والشكوك.
الفصل الجامد بين السلطات والذى تبناه الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية، ثم حفظته الأجيال عبر عقود، لم يعد ضمانة كافية لتوازن تلك السلطات، بل إن استدعاءه باستمرار لتصفية حسابات وخلافات حزبية وأحيانا شخصية! عزّز من تفاقم حالة الاستقطاب العنيفة التى غرقت فيها البلاد خاصة فى السنوات الأربع الأخيرة.
استدعاء مجلس النواب الأمريكى ذى الغالبية الديمقراطية لمحاكمة «ترامب» على خلفية تسجيلات البيت الأبيض الشهيرة لمحادثات الرئيسين الأمريكى والأوكرانى، والحرص على طرح الثقة فيه على الرغم من عدم توافر أدلة كافية لعزله، استنفر مجلس الشيوخ ذو الغالبية الجمهورية للتصدّى للاتهامات ونصرة الرئيس الأمريكى ظالما أو مظلوما. هنا تحديدا بدا واضحا أن الفصل الجامد بين السلطة التنفيذية والكونجرس لم يستخدم لمصلحة الشعب وإنفاذ إرادته، بل لحسم صراع حزبى بين الديمقراطيين والجمهوريين، وصراع شخصى بين ترامب وبايدن، وتصفية حسابات قديمة حاضرة منذ محاولة جمهورية سابقة لعزل بيل كلينتون بعد فضيحة مونيكا الشهيرة، بل وإحراز نصر سياسى يساعد فى المعركة الانتخابية ولو على حساب وقت الشعب وتحقيق مصالحه العليا.
من ناحية أخرى حرص الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته «دونالد ترامب» على تعيين رئيس جديد للمحكمة الفيدرالية قبل أيام من الانتخابات الرئاسية، فى تصرّف غير مسبوق أثار العديد من الشبهات. ورغم أن المرشحة للمنصب كانت تحظى باحترام واسع بين صفوف الحزبين، إلا إن توقيت الاختيار أعطى إيحاءً بأن ترامب يستدعى رأس السلطة الثالثة لنزاع حزبى جديد محتمل، إذا ما جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية مخيبة لتوقعاته فى فوز سهل على خصمه اللدود. صحيح أن «ترامب» استغل الفرصة للتنديد بسابقه «أوباما» كونه لم يتخذ أى قرار بترشيح القضاة فى نهاية فترة رئاسته، مما حدا بترامب مضطرا (وفق زعمه) إلى القيام بما تقاعس عنه الرئيس السابق ولو فى الأيام الأخيرة لولايته! لكن أحدا من العقلاء لم تنطلِ عليه تلك الخدعة، وظل الديمقراطيون يرددون أنهم غير معترضين على شخص المرشحة للمنصب القضائى الأهم فى البلاد، هم فقط يريدون إمهال الشعب أياما قليلة لاتخاذ ذلك القرار المصيرى عبر اختياره للرئيس القادم وأعضاء الغرفتين.
***
نحن إذن أمام تشرذم كبير فى المشهد السياسى الأمريكى المرتبك، واستقطاب عنيف فى صفوف المواطنين، وانقسام حاد فى غرفتى البرلمان، ومحكمة فيدرالية مشتبه فى انحيازاتها، ومصير كرسى أقوى رجل فى العالم يريد البعض أن تحسمه سلطة القضاء، فى طعنة هى الأخطر لآلية الانتخابات، التى لولاها ما عرف الأمريكيون سبيلا للاتحاد تحت راية واحدة، وما عرفوا تداولا سلميا للسلطات.
نحن أمام مؤسسات إعلامية شديدة الانحياز، مبررات انحيازها حاضرة دائما، هى تريد الخير للشعب! يستخدم بعضها فزّاعة الإغلاق لحمل الناس على نبذ الديمقراطيين، ويستخدم البعض الآخر فزّاعة انهيار القيم الأمريكية لشيطنة الجمهوريين، والخوف الكبير يأتى من كفران الشعب بكل ما هو مطروح أمامه من خيارات. الولايات المتحدة لا تحتمل هذا الفراغ الذى يمكن أن تتركه حالة الاستقطاب الحالية.
الرئيس المنتخب يعد بوحدة الصف من جديد، يعد بإدارة أمريكية تعمل لصالح الشعب، يعد بوزارة عدل مستقلة تضطلع بالتحقيق فى مزاعم الطعن فى الانتخابات وتهم التزوير التى يجب ألا تمر بغير عقاب لمن تورّط فيها أو أطلقها افتراءً وتشويها. النائب العام الأمريكى «وليام بار» أحرج «ترامب» إذ خرج من عنده مؤكدا على عدم توافر أية أدلة بتزوير إرادة الناخبين، هذا التأكيد الذى أهال التراب على المتحدث الرسمى للبيت الأبيض بمؤتمر صحفى حديث، بدا فيه غير مطّلع على التطورات.
خلال مائة يوم أولى فى حكم بايدن سيكون على الشعب الأمريكى أن يرتدى الكمامة. أخشى أن تستخدم تلك الدعوة بمدلول رمزى يشير إلى تكميم الأفواه وقمع المعارضين. الشاهد أن الكمامة ضرورية للحد من تفاقم أعداد المصابين بكورونا فى الولايات المتحدة، والتى بها أحد أكبر معدلات الإصابة فى العالم. اللقاح مازال فى الطريق، الشكوك تحوم حول البدائل، وحول خطورة تمرير لقاح بموافقات طارئة، وقبل استيفاء التجارب التى تمتد فى العادة لما بين عام وعام ونصف العام. لكن العالم يسابق الزمن، والفيروس يزداد شراسة، ولا صبر للبشر على مزيد من الوفيات التى اقتربت من المليون ونصف المليون حالة وفاة حتى تاريخه.
لقاح فايزرــ بايونتك أو لقاح مودرنا أو أى لقاح آخر تثبت فاعليته لن يكون متاحا لعشرات الملايين من الشعب الأمريكى إلا خلال أشهر أو حتى أسابيع من الآن، «بايدن» يتحرك فى فريقه بنشاط للسيطرة على الوباء، فى الوقت الذى ينشغل فيه «ترامب» بلعب الجولف على حد اتهامه له. لم يعد الخوف من الإصابة أكبر من مخافة الفقر وفقد الوظائف. «بايدن» يعد الناس الفقر وفقا لـ«ترامب»، والأيام وحدها يمكن أن تثبت عكس ذلك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved