«سيرانو».. كرامات عاطفية من عاشق السينما المجروح

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: الأربعاء 8 ديسمبر 2021 - 12:24 ص بتوقيت القاهرة

كم أحببت تلك السينما المدهشة، التى تغوص بفنياتها فى أدق مشاعر البشر وحكاية تلهمنا انسانيا، لا تتوقف عند زمن بعينه، مثل حكاية «سيرانو دو بر جراك».. ذلك الفارس الشاعر والعاشق الولهان لحبيبة لم تكن له سوى فى قلبه، وهى الشخصية التى وقع فى غرامها العديد من النجوم والمخرجين، آخرهم البريطانى الرائع جو رايت بفيلمه الجديد «سيرانو» الذى يفتتح به مهرجان البحر الأحمر السينمائى دورته الأولى، وكأنه يريد أن يبعث برسالة جمال من السينما لعاشقها المجروح بفعل القدر، بالقطع هى رؤية خاصة وصائبة لمبرمجى المهرجان، الذين يلقون بثقل الاختيارات فى تلك الدورة عالميا وعربيا ومحليا.
أتذكر يوم ان شاهدت النسخة الفرنسية التى قدمت عام 1990، وجسد شخصية سيرانو النجم جيرارد ديبارديو، خرجت من قاعة العرض فى حالة لم أستطع وصفها، متأثرا بالاجواء.. بالحوار الشاعرى وقصة الحب الحقيقى، واستعدت تلك الحالة وأكثر فور مشاهدة الطبعة الجديدة من الفيلم على شاشة البحر الأحمر، ففى نسخته الانجليزية المعاصرة يعيد العمل القصة الكلاسيكية الرائعة فى إطار موسيقى رومانسى وكأنها كرامات عاطفية من نص إيريكا شميدت المبنى على مسرحية إدموند روستان «سيرانو دو بير جراك» عام 1897، بتخيل الحكاية الخالدة لمثلث الحب المفجع بصدقه وواقعيته.. رجل سابق لعصره «سيرانو» الذى يجسده ببراعة بيتر دينكلاج، سواء من خلال التلاعب بالكلمات فى تنافس لفظى أو بالسيوف فى مبارزة حقيقية من أجل إثبات ذاته، لكنه مقتنع بأن مظهره غير الجذاب يجعله غير جدير بحب صديقته روكسان «هالى بينيت»، والمفارقة الدرامية، انه لم يعلن سيرانو بعد عن مشاعره تجاهها ــ بينما وقعت روكسان فى حب كريستيان من النظرة الأولى، وذلك عندما يصل هذا الشاب العسكرى الوسيم إلى مكان الأحداث.
يلفت المخرج إلى سيمفونية من المشاعر مع الموسيقى والاجواء الرومانسية وجمال السرد، حيث يستكشف حاجة الإنسان للتواصل حتى لو كان روحيا رغم العثرات، فـ«سيرانو» شاعر موهوب ومبارز ممتاز يكافح من أجل الكشف عن مشاعره الحقيقية للمرأة التى يحبها سرا، حيث يخشى الرفض، رغم أنها تعشق الشعر، ولأن كريستيان غريمه لا يجيد كتابة القصائد لذا يتدخل سيرانو ويكتب بشكل فعال رسائل حب وقصائد لكريستيان من أجل أن يرسلها إلى روكسان باعتباره صاحبها، مما دفعها إلى الوقوع فى حب الشاب بدلا منه.. تصوروا هذا النبل، وتلك التضحية.. إن سيرانو يريد أن يرضى قلب حبيبته. سيرانو يعرف قلب روكسان ربما أفضل مما تعرفه، وبينما ينكسر قلبه عندما تخبره بمشاعرها تجاه كريستيان، فى مشهد أكثر من رائع فإنه مع ذلك يعد بحماية المجند الشاب، ويدرك أيضًا أنه بدون مساعدته، لا يملك الجندى أى فرصة للتودد إلى روكسان، ولذا فهو يعرض كتابة رسائل الحب التى تتوقعها. فى نطاق صفقة: «سأجعلك بليغًا، بينما تجعلنى وسيمًا». وهكذا تبدأ أعظم صفقة إنسانية قدرية عرفتها السينما.
مفردات الفيلم القوية تستكشف مثلثات الحب، والخداع، وقوة اللغة، والقيمة الداخلية الحقيقية للشخص جنبًا إلى جنب مع المظهر الخارجى، وكما يقول رايت، «كيف نفشل فى كثير من الأحيان فى التواصل مع الآخرين من خلال الخوف من رؤيتنا بطريقة ما.. تذكرنى القصة بأهمية الاتصال البشرى، خاصة فى وقت كنا نتضور جوعًا أثناء عمليات الإغلاق».
الأداء كان رائعا ومدهشا، على الرغم من أن دور «سيرانو» لعبه عدد كبير من الممثلين على مر السنوات منهم كونستانت كوكيلين وأنتونى شير وروبرت ليندساى وجيرارد ديبارديو وكيفن كلاين، خوسيه فيرير والذى فاز بجائزة الأوسكار عن دوره فى فيلم Cyrano فى عام 1950، إلا أن دينكلاج يجعله منعشًا جدًا وحيويًا وقويًا لدرجة أننا نشاهد سيرانو وكأننا نراه لأول مرة، وربما مواصفات دينكلاج الجسدية الضئيلة خدمت الغرض ومنحته عناصر مؤثرة بجانب عاطفته الجياشة وروحه المرحة.
ايضا ايريكا شميت، التى كتبت سيناريو الفيلم، أعادت تخيل سيرانو كرجل يعانى من التقزم ولم تتخيل بطلا مناسبا للدور أكثر من زوجها بيتر دينكلاج وافردت مساحة لتلك المونولوجات الطويلة التى تلعب على الكلمات، واغانى البوب ​​الجميلة الحزينة التى قدم لها مات بيرنجر وكارين بيسر كلماتها ــ التى تمثل نوعًا ما تجربة عاطفية أكثر سهولة للوصول إلى الأفكار المنشورة
أعتقد أن النجاح الإبداعى للفيلم هو غالبًا ما يصممه الممثل المناسب فى الدور المناسب فى اللحظة المناسبة وهو ما تحقق مع بطلينا بيتر دينكلاج وإلى بينيت بتوهجهما الكبير، وكذلك كلفن هاريسون جونيور، الذى يلعب دور كريستيان اثبت قدرته التمثيلية إنه بالتأكيد وسيم بما يكفى لجذب قلب وعواطف روكسان ولديه أيضًا صوت غنائى قوى.
بفضل الصورة المتدفقة أصبح أسلوب رايت أكثر حيوية من أى وقت مضى، ورغم ان حبكة «سيرانو ديبرجراك» معروفة بما يكفى لتجنيبها إعادة سردها إلا أن رايت ــ الذى أعتبره أحد أكثر المخرجين إبداعًا قد تفوق على نفسه فى ابتكار طرق سينمائية مختلفة لعرض رؤيته الملحمية، حيث يقوم رايت بتحديث جوانب القرن السابع عشر لتلائم جمالياته، ويلعن طبقة النبلاء بشرائط ورتوش ووجوه مسحوقة.
النقطة المهمة هى سحر النص الأصلى ومدى تأثيره الذى مازال باقيا حتى اليوم مع تقنيات جو رايت الفنية التى تلفت الانتباه من صورة فى أجواء صقلية وأزياء مذهلة. ربما يكمن الإنجاز المرئى الأكثر إثارة للدهشة فى مشاهد المعارك الشتوية التى تم تصويرها على الخلفية المهيبة لجبل إتنا وهى من أكثر مشاهد الحرب وضوحًا التى تم تصويرها على الإطلاق.
يجىء المشهد الأخير، ليمثل الخلود لتلك القصة عبر أجيال أخيرًا، فإن الخاتمة الرومانسية للمسرحية ــ المشهد الذى تعترف فيه روكسان بحب سيرانو لها وتؤكد حبها له.
أتذكر اعتراف المخرج جو رايت أنه عرف المسرحية الفرنسية الأصلية منذ صغره وتأثر بها: «كنت أحد هؤلاء الأطفال الذين شعروا بأنهم غريبون وغير جديرين بالحب، لذلك كنت على اتصال دائم بالقصة.. يتعلق الأمر حقا بحاجة الإنسان للتواصل، وكيف نفشل فى كثير من الأحيان فى التواصل مع الآخرين».
وقال نعم «ربما يمكن لهذا الفيلم أن يساعد فى التعبير عما أعتقد أنه حقيقى، وهو أننا أكثر تشابهًا مما نحن مختلفون، على الرغم من المظاهر الخارجية».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved