ثورة.. الخالق الناطق أصحابها

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الأربعاء 8 يناير 2014 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

لا أعرف كيف التفت عدد لا بأس به من الناس إلى ذلك المذيع ثقيل الظل وأضاعوا وقتهم فى الإنصات إلى مجموعة من المكالمات التليفونية المسجلة من وراء ظهر أصحابها من النشطاء السياسيين. وراح البعض يصب جام غضبه على أصحاب تلك المكالمات. وكيف أنهم خدعوهم بأنهم ثوريون مخلصون، وليسوا عملاء ممولين من الخارج ليصنعوا ثورة يناير. بينما البعض الآخر راح يدقق السمع لمرات لعله يكتشف تلك الأجزاء فى التسجيلات التى ربما كانت مفبركة، أو مقتطعة من سياقها. أما أصحاب نظرية المؤامرة فقد حاكوا قصصا عن تلك الأجهزة الحديثة التى أصبحت قادرة على تقليد الأصوات وجعلها طبق الأصل خارجة من أفواه أصحابها.

الحقيقة أن نجاح هذا المذيع وتلك القناة التليفزيونية لم يكن فى إقناع عدد لا بأس به من بسطاء الناس وغير البسطاء منهم، بأن هؤلاء الشباب المذاع لهم تلك التسجيلات ربما كانوا بالفعل عملاء وممولين من الخارج. ولم يكن النجاح أيضا منصبا فى مسح أدمغة الناس، وجعلهم لا يفزعون من فكرة جهر الأجهزة الأمنية، وتباهى من يعملون معها بإجراء وإذاعة التسجيلات غير القانونية والمجرمة بحكم الدساتير المحلية والأجنبية. فلم نجد أناسا كثيرين فيما عدا العاملين فى المؤسسات الحقوقية قد أدهشهم أن الجهاز الأمنى لم يعد يخشى الإفصاح عن أن انتهاك حرمات الناس هو من صميم عمله. وإنه عازم بمباركة من الإعلام على استكمال مهمته فى خرق المادة (57) من دستور 2013 الذى مازالت سطوره تحمل سخونة المطبعة.

ولكن كل هذه النجاحات سوف تطمسها الدعاوى القضائية التى رفعها أصحاب التسجيلات، والمؤسسات الحقوقية التى تقف ضد تلك الممارسات الأمنية المشينة. ولكن النجاح الأهم هو أن تلك التسجيلات السمجة جعلت بعض من قام وشارك فى ثورة يناير يصدق أن هؤلاء النشطاء هم من صنع الثورة، ونسى البعض منهم أنهم صانعوها.

صنعوها هم وأهلهم وأقاربهم وجيرانهم فى الحى، وأصحابهم فى الجامعة، وزملائهم فى المصنع، وأقرانهم فى طوابير العيش، ومعارفهم الذين يتزاملون كل أول شهر عند البقال التموينى. صنعوها هم وأولاد الصعيد الذين يحملون نفس ملامحهم، الذين يعملون يوما، وينامون بعده اياما بدون عمل. صنعوها هم وفلاحون أخرون كان لديهم طين أخذوه بقرارات الإصلاح الزراعى بعد ثورة يوليو 1952، ولكن بفضل قوانين مبارك الزراعية أسترده منهم أصحاب الأراضى. وعادوا ليزرعوا عند ملاك للأرض يسكنون بعيدا عنها، وربما لا يعرفون مكانها على الخريطة.

•••

والحقيقة أن واقعة المذيع والقناة التليفزيونية، ثم ظهور شخصيات بارزة بحجم فتحى سرور يتبجحون ويتحدثون عن الثورة بلا خجل، وبعدها الاحتفاء الحكومى بعودة رجال أعمال كانوا قد هربوا بعد الثورة حين فتحت ملفاتهم. كل هذا جعلنى أعود لجهاز التسجيل الذى كنت قد حشرت فيه عشرات التسجيلات لأناس قابلتهم أيام ثورة يناير وأيام أحداث مجلس الوزراء. وكنت أحتفظ بأصواتهم وتعبيراتهم وهتافاتهم، وفى بعض الأحيان صوت بكائهم على أحوالهم. ونحيب بعض السيدات على استشهاد أولادهم. كنت قد احتفظت بالتسجيلات لأنى كنت على يقين أن يوما ما ستكون أصوات هؤلاء الناس هى من يجمد قلبى ويجعلنى لا أهتز أمام تلك الحملات الشرسة لتشويه الثورة، ولا أنسى ولو مرة واحدة أن هؤلاء هم من صنعها، وإذا نسيت فهم يذكروننى.

عم عيد ربيع الآتى من محافظة أسيوط «أنا على باب الله. بأشتغل فى أرض مش أرضى. وخيرها بياخده ناس تانية. أنا بأشتغل باليومية، بثلاثين جنيه فى اليوم. رضا. ولكنى باشتغل يوم وأنام يومين.. عندى دار، قاعد فيها بالإيجار، ناس نصحونى أنى أنزل معاهم اشتغل فى العاشر، ورحت معاهم بعد ما خلصت الشغلانة سرقونى. اليومية مش ممكن تمشى بيت. الصعيد تعبان قوى. الناس بتاكل من الزبالة. عايزين ريس ابن حلال يمسك البلد. ياخد من الغنى ويدى الفقير، ويحس بالغلبان. مش عايزين حد من الشلة القديمة، لأنه عارف أن البلد اتسرقت وكان ساكت. يعنى نرجع للنظام القديم اللى عمرنا ماشفنا الفشل الكلوى غير أيامه. دول بيلموا بعض تانى زى العنكبوت. أنا جيت هنا عايز اقول لحد أنى عايز كشك أبيع فيه خضار أو حتى عربية كارو أبيع عليها أى حاجه». تذكرت ملامحه من صوته، وتذكرت ملمس يديه الخشنتين من كلامه محمد عثمان من بنى سويف « جينا هنا من غلبنا. أنا فواعلى من الأرياف، بأشيل الطوب والزلط والأسمنت. أنا جيت علشان أقف مع بتوع الثورة لغاية لما يروق الحال. أصل أنا بقالى كتير معنديش شغل، أصل كان عندنا حتة أرض فدان ونصف أخذناها بالقانون زمان. وكنا أنا وأخواتى بنزرعها. وبعدين خدوا منا الأرض، ورجعوها لأصحابها. خدوها بالعافية، بالسلاح يعنى، وكان معاهم الشرطة. أنا لما جيت هنا قلت مش حاروح غير لما كل الناس تروح. طول ما الناس موجودة، أنا موجود. واللى الشعب متفق عليه أنا موافق عليه. المهم عندى العدل».

ولما سمعته هذه المرة تذكرت لمعان عينيه، وكأنه يملك اليقين بالنصر. وسمعت صوتى فى التسجيل يقول بأنه يقف أمام لافتة مكتوبًا عليها (نأسف للإزعاج هنا نصنع الخيال). خالد محمد من شبرا خراط معادن. «انا مش دارس علم الثورات. أنا أصلى دبلوم صنايع. كان نفسى أكمل تعليمى أصلى بأحب القراءة قوى. ولكن الظروف صعبة. أنا جيت هنا علشان عايز أعدل المعادلة اللى بتقول أن 95% من المصريين بياخدوا 5% بس. على فكرة الشارع هو اللى علمنى السياسة لا التليفزيون ولا الأحزاب. وأنا عارف كمان ان الثورة الفرنسية استمرت كتير لغاية لما نجحت».

أتذكر الشجن الذى كان فى نبرة صوته، ولكن غاب عنى أسمه الذى لم يشأ أن يذكره هو سائق قطار كان من أصدقاء المتهمين فى حادث الصعيد عام 2002. «برأتهم المحكمة، بعد أن كانوا متهمين بالتسبب فى قتل فقراء من الصعيد كانوا راكبين القطار. وكان محامى عمال السكة الحديد هو نبيل الهلالى اللى قال أن الجانى هو حكومات مبارك و صندوق النقد الدولى. علشان خدوا الفلوس بدل ما يصلحوا القطورات. لكن الثورة لازم تصلح القطورات».

•••

وعندما كان شريط التسجيل يسمعنى صوته، كانت يدى تمتد إلى أوراقه التى أخذتها منه فى ذلك اليوم ليثبت كلامه بأنه سيتقدم للنائب العام ببلاغ ضد من اغتصب وباع شركة «المراجل البخارية» فى التسعينيات. حسن أبوالذهب العامل الذى خرج على المعاش جبرا لينضم إلى طابور العاطلين بفعل الخصخصة. «لن أفقد الأمل أن الثورة سوف تعيد لنا شركتنا التى بيعت بتراب الفلوس. والتى باعها المشترون لآخرين ثم أوقفوا نشاطها وخربوها لكى تتحول أرضها إلى مشروع سياحى. ولكن لن نسمح لهم أن يهنأوا بها. الشركة من حق عمالها وسوف تعيدها الثورة لأصحابها ولو بعد حين».

تركت التسجيل يسمعنى بعضا من هتافات تلك الأيام.. «عايشين فى ذل وجوع. وقلبنا موجوع. والثورة هى الحل. وهو ده الموضوع». ولكن أغلقته حينما كانت أم شهيد تنتحب على ابنها فوق نقاط من دمه على الأرض، وكان يقف أمامها شباب يشاركونها قراءة الفاتحة على روحه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved