فى وداع السفير

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 8 يناير 2017 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

يبدو الأمر فى أكمله شبيه بالجنازة المؤلمة حيث يصطف الأحبة لوداع شخص حبيب سيفتقدونه حتما ولكن فى وداع السفير يتحول الأمر إلى كم من التداعيات المحزنة وكأنها، أى السفير، تسدل الستار على مرحلة لن تعود وكأننا فى وداعها نعلم بأنها لن تكون الأخيرة وأن الصحافة التى وقفت دوما بشكل أو بآخر لتناكف السياسيين الفاسدين منهم والطائفيين وكثيرا من أصحاب الانتماءات الخارج وطنية، هذه الصحافة الحارس الأخير على أموال المواطنين ومصالحهم سترحل فيبقى الميدان مفتوحا لكل الاحتمالات.
***
قد يختلف أو يتفق الكثيرون مع السفير وخطها وقد يقولون ما يقولونه ولكنهم لن يستطيعوا سوى الوقوف احتراما لتاريخ هذه الصحيفة العريقة التى وقفت فى وجه القناصة والسيارات المفخخة أثناء الحرب الأهلية وكانت تصدر بانتظام وواكبت وجع اللبنانيين والعرب أينما كانوا ولم تكن لها بوصلة سوى فلسطين صوت الناس من الضعفاء والمهمشين والمقاومين لكل أنواع التطبيع والفساد والاستئثار بالسلطة والديكتاتوريات.
للسفير قصص عدة مع الكثيرين منا، نحن العرب المنتشرين فى بقاع الأرض الباحثين عن مساحة لم يلوثها العفن ولا التملق المقيت ولا المجاملات المملة لرجال سياسة أشباه تلك المخلوقات التى توضع فى متاحف الشمع هم كذلك باقون حتى تلتقفهم القبور المعتمة فيعودون إلى العتمة التى نشروها فيما كانت السفير تعمل بجد لنشر النور فى المدن والبلدات المظلمة.
كيف سيكون صباحى دونها؟ يكرر ذاك الواقف فى منتصف عمره الآن وهو يتذكر سنوات دراساته فى الجامعة الأمريكية فى بيروت والجرى فى الصباح على الملك بار لشرب القهوة الساخنة وقبلها أخذ نسخته من السفير عند ذاك الجالس تحت الملك بار يعرف كل طالب وطالبة وماذا يقرأون ثم وحال انصرافهم يبقى يحلل إلى أى فصيل أو اتجاه سياسى ينتمون. حينها كانت الاتجاهات السياسية والفصائل تعنى الكثير قبل أن تتحول الأحزاب السياسية إلى دكاكين أو تهمش من قبل السلطات وتضرب مرة واثنتان وثلاث حتى تتفتت.. حينها لم تكن الطائفية تنهش فى دواخل العرب ولم يكن العربى أو العربية يعرفون أنفسهم بطائفتهم السنية أو الشيعية.. هذه الأخرى كانت من عذابات السفير فى السنوات الأخيرة والقائمين عليها وعلى رأسهم أستاذنا جميعا طلال سلمان كان يقلقه كم الطائفية وانتشارها والتصنيف الذى يصنف به الأشخاص والأمور والمواقف وحتى الصحف أيضا رغم رفضه التام لتلك التصنيفات ومحاربته التامة لها ووقوفه وحيدا يناطح طواحين الهواء العربية جدا.
***
عندما نودع السفير فنحن ندرك بل نعرف أن العديد من الصحف الأخرى تصارع الموت السريرى وبذلك تبقى المدن العربية دون صحف صباحية ولا مسائية ولا رقيب ولا حسيب رغم إدراكنا أن الرقيب أصبح مكبلا هو الآخر بالعديد من الأمور إلا أنه بقيت الصحف هى آخر القلاع التى تفضح الفساد والفاسدين وتنشر ما يحاول رجال السياسة والاقتصاد أن يخفوه وأكثرها تقاسيمها للغنائم الموجودة وتلك القادمة أيضا فالكل يتطلع فى لبنان إلى النفط والغاز القادمين من البحر فمن سيكون هناك عندما يجلس رجال الطوائف المدعون لعب السياسة لتقسيمه حصصا حصصا!!!
فى غياب السفير نسدل الستارة الأخيرة على ما تبقى من صوت لنا جميعا ونقف أمام خيار واحد لا ثالث له أن نستمر فى قراءة الصحف الصامدة فى المدن الأوروبية والأمريكية والأخرى الإلكترونية العربية التى هى الأخرى لم تكن بعيدة عن مرض الانحياز أو الوقوف مع من يمولها.
***
ترحل السفير فنبقى نعيش على كثير من الذكرى الجميلة ونضع أكاليل الورد على قبور الحقيقة التى ستغيب حتما فى رحيلها ورحيل الصحف القادمة واحدة تلو الأخرى.. وداعا للسفير التى شكلت ولونت أيامنا الحلوة وتبقى مدرسة للصحافة نعتز بها حتما وعلى رأسها أستاذنا طلال سلمان الذى علّم جيلا كاملا من الصحفيين العرب الكثير، الكثير من فن الحرف إلى صياغة الكلمة التى هى موقف.
وداعا للسفير التى تبقى فى الذاكرة العربية الحرة وداعا لصوتنا الذى كان وكثير من الدمع مع كل الوداعات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved