القبس ــ الكويت: عودة إلى «فن الحب»

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الجمعة 8 يناير 2021 - 7:00 م بتوقيت القاهرة

نشرت جريدة القبس الكويتية مقالا للكاتب حامد الحمود، حاول فيه الإجابة عن السؤال الآتى: «لماذا ظل كتاب (فن الحب)، لإريك فروم، يطبع لمدة 65 عاما». كما حاول الكاتب التفرقة بين حب الأم غير المشروط، والحب الأبوى والحب الإلهى... نعرض منه ما يلى:

كان محض مصادفة أن عدت إلى كتاب «فن الحب» لإريك فروم، والذى نُشر للمرة الأولى عام 1956. فقد سألنى صديق، كان قد انتهى من قراءة «فن الحرب» لفيلسوف الحرب الصينى سون تزو، إن كان هناك كتب مثيلة فى عمقها وأهميتها مع صغر حجمها. فاقترحت عليه قراءة «النبى» لجبران و«فن الحب» لفروم. ولحسن الحظ كان لدى أكثر من نسخة من «فن الحب» بالعربية. وعندما تصفحت الطبعة العربية قررت أن أقرأها. وسأحاول فى نهاية هذه «العودة» الإجابة عن التساؤل: لماذا ظل هذا الكتاب متوافرا فى مكتبات البيع على مدى 65 عاما؟

هذا العقل الذى يتميز به الإنسان، هو نفسه الذى يولد وعى الإنسان، بانفصاله وبغربته وبنهايته. وعبر التاريخ الإنسانى لجأ الإنسان إلى وسائل عديدة لمعالجة هذه الغربة وهذا الانفصال. «فتاريخ الدين والفلسفة هو تاريخ هذه الحلول، تاريخ تنوعها». فالإنسان يبحث عن مغزى للحياة هروبا من هذا الانفصال والوحدة، ومن يفشل فقد ينغمس فى الخمر والمخدرات، وحتى فى الجنس توقا لعلاج. لكن وكما يرى فروم فإن الحل الكامل يأتى من تحقيق الوحدة مع هذا الكون، ويأتى من الاندماج مع شخص آخر فى الحب. لكن هذا الحل لا يأتى من دون جهد، وكثيرا ما يخدع الإنسان نفسه عندما «يقع» فى الحب. لذا، يمكن وصف الكتاب بأنه الكاشف عن الحب الزائف، والمرشد لتلمُس الطريق للحب الحقيقى الذى سيرفع من قدر الإنسان وسعادته. والمؤكد «أن الحب هو العطاء، وليس التلقى». والعطاء يعنى المسئولية. وأول أنواع الحب الذى يشرح فيه فروم «نظريته» فى الحب، هو حب الأم لطفلها.

حب الأم
ويعتبر تطور مسيرة تعلق الطفل بالأم منذ ولادته وحب الأم غير المشروط له نموذجا لمقارنة أنواع أخرى من الحب، مثل الحب الأبوى والحب الإلهى والحب الغرامى والحب الأخوى. فالطفل بعد ولادته لا يعى انفصاله ولا يستجيب إيجابيا إلا إلى حلمة أمه والدفء الذى يحتاجه. فهو لا يعطى ولا يستطيع أن يعطى. لكنه ينفصل تدريجيا عن الأم بقدر ما يتمكن من العطاء. والذى قد يكون بداية مجرد ضحكة بوجه الأم، أو أن يحضر لها شيئا بعد أن يتمكن من المشى. وهذه المرحلة لدور الأم فى حياة الطفل ليست مهمة لتوفير الحليب أو الأكل، وإنما هى مهمة جدا فى توفير السعادة وتأثير ذلك فى بنية الشخص نفسيا عندما يكون ناضجا.
ومن مظاهر النضج فى هذا الحب أن يعى الطفل تدريجيا حب الأب الذى سيجد الابن أن هذا الحب مشروط وليس كما كان قد عهد من حب الأم غير المشروط، حيث يعلم الأب الابن تحديات الحياة، وأنه لكى يتجاوزها عليه أن يتعلم وينجز. ولا بد من التوضيح هنا أن نموذجى الأم والأب قابلان لتغير أدوارهما. ففى كثير من الأحيان تقوم الأم بالدور الإضافى لها الذى كان قد عهد للأب، إما لغيابه أو لضعف شخصيته. ويمكن أن يحدث أن يقوم الأب بكلا الدورين كذلك.

اختلاف فروم وفرويد
ويختلف فروم مع سيجموند فرويد فى تحليله لحب الذات الذى عنده هو النفس النرجسية. فالليبدو (الطاقة العقلية والجنسية) عند فرويد إما أن يذهب إلى الآخرين أو يرتد إلى النفس. أما عند فروم فحب الذات ضرورى لحب الآخرين، بل إن الذى لا يستطيع أن يحب ذاته لا يستطيع حب الآخرين. كما أن «الأنانية وحب الذات أبعد من أن يكونا متماثلين. إنهما ضدان بالفعل، فالشخص الأنانى لا يحب نفسه كثيرا بل يحبها قليلا جدا. إنه فى الواقع يكره نفسه».
كما ينتقد فروم أفكار فرويد حول الحب الجنسى، الذى يظهر لفرويد على أنه مجرد إشباع الرغبات الجنسية للطرفين، الذى يعزوه إلى تأثر فرويد بمادية القرن التاسع عشر. هذا ويرى فروم أن مشكلة فرويد أكبر من ذلك، لكونه يرى أن الحب الغرامى ظاهرة غير عقلانية. وينتقده كونه يتحدث عن الحب عند الرجال فقط وأنهم مساقون برغبة فى الغزو الجنسى. ويثبت فروم إكلينيكيا عن مرض هؤلاء الرجال «إن الرجال الذين يكرسون حياتهم لإشباع جنسى غير محدود لا يحصلون على السعادة، بل هم فى الأغلب يعانون من الأعراض المرضية العصبية الشديدة».

اندماج رمزى
ولتفسير الحب بين الرجل والمرأة كما يراه فروم، فلا بد أن نرجع إلى الحب الأمومى، فالجنين ينمو داخل الأم، تلده طفلا بعد تسعة أشهر، لكنه يظل متعلقا بها لسنوات. والأم الناضجة هى تلك التى تربى الطفل لينفصل عنها وليستقل بحياته كليا. فكأنما الواحد ينفصل إلى اثنين. أما الحب بين الرجل والمرأة، فيسير على عكس هذا المنوال، فهما اثنان يندمجان فى واحد. لكن هذا الاندماج الرمزى له شروطه لتحقيق السعادة، فهو اندماج واستقلالية فى الوقت نفسه. فالاعتماد الكلى من طرف على الآخر يعيق النمو الحقيقى للحب. وأن تصبح الزوجة أما أو الزوج أبا مظهران لعدم صحة العلاقة الزوجية، «فهناك رجال لم يفطموا بعد من أمهم... إنهم يريدون حب الأم المطلق، وهو حب يعطى لا لسبب سوى أنهم يحتاجون إليه». وعادة ما تتكون هذه المشاعر عند الرجال الذين تربوا عند أمهات يتنفس أطفالهن من خلالهن. مثل هؤلاء النساء يبتلعن أطفالهن كبارا، مقيدات قدرة الأطفال على المضى فى الحياة باستقلالية. ويصف فروم هذا الجانب من الأم بالتدمير السلبى. لذا فإن الأم «تستطيع أن تعطى الحياة وتستطيع أن تأخذ الحياة».

حب الله
ولعل أهم ما تضمنه كتاب «فن الحب» لإريك فروم هو ما بثه فى أكثر من جزء من الكتاب عن حب الله، ونرى أن فروم يقتبس من التوراة والإنجيل ومثنوى جلال الدين الرومى لتأكيد أهمية هذه الظاهرة الإنسانية. لكن بالطبع لا يقدمها بالصورة المقدمة من رجال الدين، فيقتبس من الرومى قوله: «عندما يذوب حب الله فى قلبك فإن الله فوق كل شك يكن حبا لك». ونجد أن فروم يقارن بالتفصيل بين حب الله لدى الديانات السماوية الوحدانية: اليهودية والمسيحية والإسلام من جهة، والديانات الشرقية البوذية والتاوية والهندوسية من جهة أخرى. ففى هذه الديانات يختلف فيها مفهوم الإله، ولا يثبت وجوده عن طريق الفكر أو البرهان، وإنما فى تجربة المعايشة الواحدية. ففى هذه الديانات فإن «حب الله ليس هو معرفة الله فى الفكر... بل فى المعايشة الواحدية مع الله». وحول الإجابة على التساؤل عما هو الحد الأقصى للدين؟ هل هو الإيمان الحق أو فعل الحق؟ نجد أن الديانة اليهودية تتفق مع الديانات الشرقية من ناحية تفضيل فعل الحق على الإيمان الحق.
ويلاحظ فروم أن الأديان تبنى وفق نموذجين: الأول أمومى والثانى أبوى. ففى الأول يكون حب الله مطلقا ومتساويا. أما فى الثانى فيكون حب الله للبشر أبويا هرميا. يفضل فيه الابن الأكبر أو الأكثر طاعة. كما أن هناك عقابا لمن لا يلتزم بأوامر الله. لكن رؤية فروم للشخص المتدين مختلفة عن الرؤية الدينية التقليدية. فالمتدين الحقيقى بالنسبة إليه: «هو ذلك الذى يتبع جوهر فكرة الوحدانية. لا يصلى لأى شىء، ولا يتوقع أى شىء من الله. وهو يحب الله لكن لا يحب الله كما يحب الطفل أباه أو أمه، وأن يكون قد بلغ درجة من التواضع التى يستشعر فيها بأنه لا يعرف شيئا عن الله».
هذا وبينما ترى الديانات الوحدانية بوجود مملكة روحانية تتجاوز الإنسان نفسه ومعطية معنى لقوى الإنسان الروحية ولسعيه نحو الخلاص، ترى الديانات الشرقية أن هناك مملكة روحية تتجاوز الإنسان، حيث إن مملكة الحب والعقل والعدل يطورها الإنسان داخل نفسه بقدر ما يعطى الإنسان قدرا لنفسه. لكن الرؤية الشرقية والغربية (السقراطية) تلتقى عند حقيقة مهمة. وهى أن من أعلى مراحل المعرفة أن نعرف أننا لا نعرف.

مرجع للتسامى
وكما وعدت فى بداية «العودة»، سأحاول الإجابة عن التساؤل عن استمرارية طبع «فن الحب» طبعات عديدة على مدى 65 عاما، خاصة أن فروم قد ألف العديد من الكتب من أهمها: «الهروب من الحرية» وآخر كتاب له «عظمة ومحدودية فكر فرويد». وهذه الكتب لم تبلغ درجة نجاح «فن الحب». وأرى أن السبب الرئيسى هو أن فروم ألف هذا الكتاب بعد استيعابه وتدريسه للفلسفة وعلم النفس سنوات عديدة. ولم يكن ينوى أن ينشر كتابا ليكون الأكثر رواجا، بل أراد أن يكون «فن الحب» مرجعا للتسامى على القيم المادية، كما أراد أن ينتقد وربما ينقذ مدرسة التحليل النفسى التى أسسها فرويد والتى بالغت فى تفسيرها لدور الجنس فى حياة الإنسان.
وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن الكتاب مع أنه صغير الحجم إلا أنه يحتاج إلى وقت وتركيز لاستيعاب مضامينه. والأهم من ذلك فإن قراءته تحتاج إلى عقل متفتح يعرف أنه لا يعرف، وعاطفة تعرف الحب.

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved