مُعايَشة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 8 يناير 2021 - 7:00 م بتوقيت القاهرة

في أحَد الشوارِع الرئيسةِ، افتُتِح مَقهى جديدٌ. ليس مَقهى بالمَعنى الحَرفي للكلمة إنما هو مكانٌ يُقَدم المشروباتِ بأنواعِها الباردةِ والساخنةِ؛ بدءًا من العصائرِ الطازجةِ وحتّى القهوةِ الأمريكيةِ ومُشتقاتِها، وله كذلك قائمةُ طعامٍ مُستقِلة للراغبين. كعادةِ هذه المَحَال، ثمةُ قاعةٌ داخليةٌ مكيّفةٌ، وساحةٌ خارجيةٌ، فيما الشاشات تتوسطُ المكانَينِ.
***
بدأَ المَقهى في استقبالِ الزبائنِ منذ أشهرٍ قليلةٍ، وواصلَ خدمتَهم رُغمَ الظروفِ الصعبةِ، وإجرَاءاتِ الحمايةِ الواجبةِ، بَل وَراجَت سمعتُه فَراحَ يمتلأُ بالرُوّادِ صباحًا ومساءً؛ رُغمَ تقليصِ ساعاتِ العملِ والتَبكِيرِ بالإغلاقِ.
***
إِحرازُ النّجاحِ أمرٌ طبيعيٌّ والفشلُ هو الاستثناءُ؛ خاصةً والبضاعةُ المَعروضَةُ تتعلّقُ بِنشاطٍ يوميٍّ مُتكررٍ لا يَستغنِى عنه إنسانٌ، وقد جَرَت العادةُ على أن تَتراجعَ الأنشطةُ كلُّها، وتبور البضائعُ وينخفض الاستِهلاكُ، فيما تحتفظُ الأطعِمةُ الجَاهزةُ والمأكولاتُ بمعدلِ مبيعاتٍ يَفي بالمَصروفَاتِ ويكفلُ الاستمرارَ.
***
المُدهشُ في هذا المَقهى تحديدًا؛ أنّ صاحبَه قد اختارَ اسمًا دارجًا ومألوفًا؛ لكنّه أيضًا مخيفٌ. وضعَ على اللافتةِ اسمَ الفيروس الذي قلَب العالمَ رأسًا على عقب؛ فأرهقَ ملايين البشرِ، وصارَ الشغلُ الشاغلُ للعلماءِ في شتّى الأنحاءِ، وأسالَ لُعابَ شركاتِ الدّواءِ وأشعلَ السباقَ بينها. لم يكتفِ الرجلُ بالاسمِ المتميزِ، بل زادَ عليه الرقمَ "20" بدلًا من "19"، وكأنّه يتحدى الجميعَ؛ الفيروسَ بسلالاتِه التقليديةِ والمُتطورةِ، والباحثينَ عما يُوقفُ غزوتَه، والخائفينَ مِنه.
***
كوفيد المرتبطُ بغرفِ الرّعايةِ المُركزةِ، والأَعينِ المَهلُوعةِ أعلى الكِمامَات، وبأسطواناتِ الأُكسيجين الناقِصةِ، وإِحصاءاتِ الإصاباتِ اليوميةِ ومُعدّلِ الوَفيات؛ تحوّل ببساطةٍ إلى مَظلاتٍ مُلونةٍ بهجيةٍ، وأضواءٍ ليليةٍ، وحفلاتِ خطوبة وأعياد ميلاد. تَحول إلى فريقٍ من الشبابِ والشاباتِ؛ يرتدونَ زيًا موحدًا، ويحملونَ اسمَ المقهى مُطرزًا، بارزًا وأنيقًا.
***
الإقبالُ كبيرٌ. لم يتشاءم عامةُ الناسِ من العنوانِ، ولا ترددَ الزبائنُ قبل الجلوسِ أو فَكروا مرتينِ، ولا شعرَ العاملونَ برهبةٍ أو توجُسٍ. هي قدرةٌ خاصة على معايَشة الواقِع واستثمارِ الظرفِ؛ مهما تعَقدَ ومهما بدا أليمًا، والحقُ أن مظاهرَ التعايشِ مع الوَضع الحَالي ليست نادرةً؛ فثمةُ حياةٌ موازيةٌ يجري خلقُها، وإبداعُ تفصيلاتِها، بعضُ هذه التفصيلاتِ يقعُ في نطاق المضحكاتِ المبكياتِ، والبعضُ الآخرُ يحملُ منطقًا.
***
لا جدل في أنّ ابتكارَ المنتجاتِ المُتعلِّقةِ بالوقايةِ اكتسحَ فضاءَ البَيعِ والشراءِ؛ في فرنٍ حديثٍ يُقدمُ الخبز الفينو والبسكويت ومؤخرًا ينتجُ "كوكيز"، ظَهرت لافتةٌ ورقيةٌ مكتوبةٌ باليدِ: "توجدُ كِمامة بجنيه واحدٍ"، وفي المكتباتِ انتشرت سلاسلُ فضيةٌ وذهبيةٌ مزدانة بالخرزِ وإلى جانبِها بطاقةٌ تعريفيةٌ: "سلسلة لرَبط الكمامةِ". الباعةُ الجالسونَ على الأرصفةِ أضَافوا إلى الأمشاطِ والمناديل والسبحِ؛ كماماتٍ مغلفةً، والجائلونَ منهم بين السياراتِ صاروا يلوحونَ بالكماماتِ ومعها البضائعُ الأخرى. بعضُ المحالِ الكبرى وضعت كماماتٍ مزينةً بالرسومِ للأطفال عندَ الخزينةِ، فإذا تعذّر وجودُ عملاتٍ معدنيةٍ أخذ الزبونُ كمامة بما تَبقى له من نقودٍ.
***
جزءٌ من التعاملِ مع الشدائدِ وتقبلِها يعتمدُ على روحِ السخريةِ الأصيلةِ من جانبٍ، وعلى إمكانيةِ الاستفادة وتحقيقِ عوائدَ مرضيةٍ من جانبٍ آخر. نبرعُ في كلَيهما؛ فقدرتُنا على استخلاصِ مردودٍ ماديٍّ من العدم شديدةُ التميزِ، كذلك فإن قدراتِنا على تحويلِ المأساةِ إلى ملهاةٍ، والجدِ إلى هزلٍ هي قدراتٌ فريدةٌ، لنا فيها باعٌ طويلٌ، وجذورٌ ضاربةٌ في القدمِ؛ لم ينجُ منها شيءٌ مهما بلغت قسوتُه، ولم يسلم منها شخصٌ مهما بلغَ شأنه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved