إبراهيم ناجى.. بعث جديد (2ــ2)

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 8 يناير 2022 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

وأتابع الحديث عن كتاب «إبراهيم ناجى» للدكتورة سامية محرز..

(4)
سأقدِّم لك نماذج من نجاحات هذا الكتاب البديع: على مستوى تفكيك حياة ناجى العائلية والمهنية، سواء عبر خطاباته لزوجته سامية أمين، أو من خلال قراءة مدونات قصيرة كتبها خلال عدة سنوات، بالعربية والإنجليزية والفرنسية.
تفكك د. سامية أسطورة سعادة افتراضية لناجى فى حياته الزوجية، فالمسافة الثقافية تبدو كبيرة بين الزوجين، كما فى خطاباته إلى زوجته، رغم تبادل الزوجين لأسماء التدليل، فيسميها سومة، وتسميه هومة، هو شخصية تقتات على المشاعر والكلمات العاطفية، بينما زوجته، وكانت أصغر سنًّا منه، لا تحب كتابة الخطابات، وترى أن «الحب فى القلوب»، وليس فى الكلمات، ولا ترى فى اقتناء الكتب أمرًا جيدًا، ولكنه مضيعة للمال.
فى مدونات ناجى القصيرة شكوى حقيقية من عدم التواصل مع زوجته، وإن احتفظ لها بواجب رعايتها الصحية له، وبمساندتها المالية للأسرة فى أوقات الأزمات الإقتصادية، وهى كثيرة بشكلٍ لافت، يكفى أن نذكر أن ناجى كان مدينًا وقت وفاته، والكتاب يوثِّق أن شقيق ناجى اشترى مكتبة الشاعر العظيم، لكى يحافظ عليها، ولكى تسدد الأسرة ديونها.
ناجى الطبيب الموظف لم يكن أيضًا أسعد حالًا، فقد عمل فى هيئة السكة الحديد، وفى وزارة الصحة، وفى وزارة الأوقاف، وبسبب ثقافته وشهرته كشاعر تم تهميشه، وعدم ترقيته وتخفيض راتبه، كان نشاطه أوسع من مجال وحدود البيروقراطية المصرية، وهو لم يتفهم أو يستوعب أو يتقبل ذلك أبدًا، ولذلك تنتقده حفيدته لأنه، وهو الخبير فى علم النفس، لم يستوعب مجال وحدود عمله.
ولعلى أضيف هنا أن نجيب محفوظ كان أكثر وعيًا بمهام الوظيفة وحدودها، بل واستفاد منها فى خدمة فنه وكتابته، بينما كان ناجى غير قادر على التكيف مع الوظيفة، وحاول أن يتحرر منها بلا جدوى، وظل، رغم ثقافته العظيمة، ابن الطبقة البرجوازية، فلا هو قادر على ترك الوظيفة، رغم ظروفها البائسة، ولا هو أيضا قادر على التحرر من زواجه، رغم قصص حبه الكثيرة، التى ظلت رافدًا مهمًا من روافد كتاباته النثرية أو الشعرية.

(5)
على مستوى المثقف إبراهيم ناجى، نقرأ مسودات ترجماته لسونيتات شكسبير، التى نتمنى أن تنشرها د. سامية فى كتابٍ مستقل، ولكن الحفيدة تحوّل هذه المخطوطات إلى دراسات رفيعة مقارنة فى الترجمة، وفى علاقة الأجيال بشكسبير، وفى مناهج قراءة الشخصية الأدبية عمومًا، مثلما تحوّل علاقتها بقصيدة «الأطلال» من الصبا والشباب، إلى مزيجٍ فذ يجمع بين الذكريات الشخصية، ودراسة دور أحمد رامى فى إعادة بناء ونحت قصيدة ناجى التى غنتها أم كلثوم، ودراسة قيام د. سامية بترجمة الأطلال إلى اللغة الإنجليزية، وكلها انتقالات سلسة وممتعة، لا يمكن أن تكتب بهذه الصورة، لولا أن مؤلفة الكتاب قد هضمت ما قرأت وأضافت إليه، ولولا أن الحدود المفتعلة بين الشخصى والموضوعى قد ذابت، من دون تعسف أو افتعال.
يرضى الكتاب كذلك شغف الباحثين عن اكتشاف مُلهمات ناجى، وبينما تمر د. سامية مرورًا عابرًا على السيدات أو «الزوزات» الثلاث (زوزو حمدى الحكيم، وزوزو ماضى، وزوزو نبيل)، فإنها تتوقف أمام قصتين شهيرتين: الأولى بطلتها (ع م)، التى أحبها ناجى قبل زواجه، والتى تعلّم الفرنسية ليقرأ معها قصة، وهنا تحقق د. سامية ما توفر من معلومات، وتصحح أخطاء صالح جودت عن تلك المحبوبة، وتعلن اسمها الحقيقى (علية محمود الطويّر)، كما تتحدث فى الفصل الأخير عن زازا، صاحبة الحب الأخير، والتى كتب ناجى عنها رواية وحيدة تحمل اسمها، وهنا تعرض د. سامية ما تردد من زواج ناجى من زازا، وتسأل ابنة ناجى السيدة أميرة، والدة د. سامية محرز، عن هذه العلاقة، وابنة ناجى تكشف بوضوح عن معرفة الأسرة بالعلاقة، ورفض زوجة ناجى الطلاق رعاية لبناتها.
هناك أيضًا طوال الوقت فكرة وضع ناجى فى زمنه، كجزء من نهضة حقيقية، مع حضور ممتاز للمكان، سواء فى شبرا؛ حيث تسكن أسرة ناجى، ومكان عيادته، أو فى مصر الجديدة، حيث انتقل ناجى بعد زواجه، كما أن العصر حاضر بأحواله الوظيفية، والاقتصادية، والاجتماعية، وبالعلاقات بين الرجال والنساء، وبالنشاط الأدبى والثقافى والعلمى، وهو حاضر أيضًا برجاله ورموزه، خاصة أن ناجى كان فى قلب الحياة الثقافية والطبية، وكان يلقى محاضرات عن شكسبير، وعن هاملت، مثلما يكتب دراسات عن توفيق الحكيم، وعن طب العائلة، وعن علم النفس الحديث.

(6)
هذه كتابة بعثت صاحبها شعرًا ونثرًا وترجمة، بعثته رسمًا ومعنى ووظيفة ونضالًا وألما وعشقًا لا يتحقق، أعادته موظفا محبطا، وعاشقا بائسا، وأبا حنونا، وزوجا يتعذب، معبرًا طوال الوقت عن نفس مرهفة، قلقة ومؤرقة، وكانت حياته أيضًا مرآة تعكس عصرا ثريا وصاخبا لا يتكرر.
بكيتُ وأنا أقرأ تفاصيل يوم وداع ناجى، سقط رأسه على جسد مريض فى عيادة شبرا، فأعادوه إلى بيته، تبكيه بناته، ويبكيه الشارع، كان محبطًا من الغبن الوظيفى، ومن غدرٍ لا يكافئ حبه للناس، ولكنه ظل مؤمنا بالكتابة، فخلدته الكتابة.
يحق لنا أن نقول، من دون تحفظ، إن الحفيدة قد صنعت كتابها الخاص عن جدها وعصره، وهو بالتأكيد من بين أفضل إصدارات 2021، لقد كتبت نصها الموازى لنصوص جدها، اكتشفت صديقًا وعائلة قبل أن تكتب دراسة أدبية، فجاءت كتابتها، من دون قصد، أو لعلها بقصد، تحية للحرف والمعنى، بقدر ما هى تحية للإنسان وراء الشاعر والعاشق والطبيب والموظف والمترجم والمثقف.
لا معنى لكل هذه الألقاب من دون أن يكون الإنسان.. إنسانًا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved