صدى مصطنع للحرب الباردة

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 8 يناير 2022 - 11:41 م بتوقيت القاهرة

يجتمع يوم غد، 10 يناير، بجنيف فى سويسرا نائبا وزيرى خارجية الولايات المتحدة وروسيا، بعد ستة أشهر من اجتماع رئيسى الدولتين العظميين فى نفس المدينة، للتباحث بشأن مواجهة بينهما ولمحاولة الوصول إلى تسوية لها. الحلفاء الأطلسيون الأوروبيون يعلنون الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة، وروسيا هى وريثة الاتحاد السوفيتى. لأن الأطراف هم فى معظمهم نفس أطراف الحرب الباردة الممتدة فيما بين النصف الثانى من أربعينيات القرن الماضى وحتى مطلع التسعينيات منه، فإنه قد يَشتَبِهُ على المتابع أن المواجهة إحياءٌ للحرب الباردة، أو أنها من أصدائها. الصدى لا يتردد لأكثر من ثلاثين سنة. أقصى ما يمكن أن يقال هو إن المواجهة صدى مصطنع. ولكن لأن المواجهة بين قوتين عظميين فى مركز النظام الدولى تؤثر نتائجها على كل أطراف هذا النظام، ونحن منهم، فإنها تهمنا.
•••
الولايات المتحدة غاضبة غضبا شديدا من روسيا وتتهمها بأنها حشدت مائة ألف جندى بالقرب من الحدود الشرقية لأوكرانيا استعدادا لغزوها، وهى تهددها بأقسى العقوبات إن هى أقدمت فعلا على هذا الغزو. روسيا تنكر أنها تفكر فى غزو أوكرانيا وهو ما لا تصدقه الولايات المتحدة، مذكرةً بضم روسيا لشبه جزيرة القرم فى سنة 2014، ولكنها لا تناقش أسباب المواجهة الحالية. الأسباب هى أن أوكرانيا فى عهدها الحالى أدرجت فى دستورها فى سنة 2019 أن الانضمام إلى التحالف الأطلسى هدف استراتيجى لها، وهى تعمل فعلا على الانضمام إلى التحالف وهو ما لا تقبل الولايات المتحدة المساءلة فيه. ومن بعد أوكرانيا، تصطف جورجيا، الجمهورية السوفييتية السابقة، التى تروم هى الأخرى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى. روسيا تقدمت مؤخرا بعناصر لاتفاقية تتعهد فيها الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها بألا تنضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسى وبألا يستمر فى التمدد شرقا وبأن تنسحب قوات الحلف من البلدان التى لم تكن أعضاء فيه فى سنة 1997 أى من جمهوريات البلطيق السوفييتية السابقة، ليتوانيا واستونيا ولاتفيا. ترفض الولايات المتحدة ذلك وتعتبره قيدا عليها وعلى حلفائها الحاليين والمحتملين وتقول إن لكل دولة تنطبق عليها الشروط أن تنضم إلى الحلف، ويصل بعض المؤيدين لمواقفها المناوئين لروسيا إلى اعتبار أن فيما تطلبه الأخيرة تهديدا لأمن الحلفاء الغربيين. بصرف النظر عن النظام السياسى والممارسة السياسية فى كل من روسيا وأوكرانيا، بل وفى الولايات المتحدة نفسها، فإن المراقب الذى يجهد فى الحفاظ على موضوعيته يتساءل عن العيب فى موقف روسيا. على الرغم من الوعد الذى قطعه الرئيس جورج بوش الأب للرئيس السوفييتى ميخائيل جورباتشوف مقابل موافقة هذا الأخير على إعادة توحيد ألمانيا بألا يتمدد حلف شمال الأطلسى فى وسط أوروبا وفى شرقها، فلقد انضمت المجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا وبولندا، التى كانت كلها أعضاء فى حلف وارسو، تباعا إلى الحلف الأطلسى، كما انضمت إليه ألبانيا، من جانب، وسلوفينيا وكرواتيا وشمال مقدونيا ومونتينجرو التى كانت غير منحازة كجمهوريات فيما كان يوغسلافيا، من جانب آخر. أضف إلى ذلك انضمام جمهوريات البلطيق الثلاث المذكورة، ليتوانيا، وإستونيا، ولاتفيا، وهو ما يعنى أن عدد أعضاء الحلف شبه تضاعف فيما بين نهاية الحرب الباردة والوقت الحالى. التمدد كله كان نحو الشرق فى اتجاه روسيا، وانضمام أوكرانيا من شأنه أن يجعل الحلف يطول خاصرة روسيا بعد أن وصل فعلا إلى شمال غربها. أليس مشروعا أن تخشى روسيا زحف الحزب الأطلسى فى اتجاهها ووصوله إلى حدودها، على الرغم مما يقوله الأمريكيون وحلفاؤهم عن أن الحزب ليس إلا دفاعيا؟
•••
ومع ذلك، فالمواجهة كلها تبدو عبثية. بالنسبة للروس موقف الولايات المتحدة يجوز أن يعتبر عدائيا، والأمريكيون يمكن أن يزعموا أنهم يحمون دول وسط وشرق أوروبا من أى عدوانية روسية. ولكن هل تستطيع روسيا أن تكون عدوانيةً، وهل يمكن للولايات المتحدة أن تضطلع بحماية أوروبا فى العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين وفيما بعده من عقود؟ صحيح أن روسيا ما زالت تحوز أسلحة نووية ولكن الاتحاد السوفييتى تلاشى وانفصلت عن روسيا كل من أوكرانيا وبيلاروس وكازاخستان وفككت الأسلحة النووية فى الدول الثلاث التى انضمت إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. نظام الإنتاج المتكامل فى جمهوريات الاتحاد السوفييتى الخمس عشرة تفكك بدوره فتراجعت اقتصاديا الدول المنبثقة عنه حتى صارت روسيا، رغم استمرار تقدمها العلمى وفى إنتاج السلاح، بلدا يعتمد أساسا على تصدير السلع الأساسية. فى سنة 1989، كان الاقتصاد السوفيتى الثانى حجما بعد الأمريكى، فصار فى سنة 2020 الحادى عشر على العالم بناتج محلى إجمالى بلغ بالكاد 1,5 تريليون دولار من مجمل إنتاج عالمى بلغ 85 تريليون دولار. نصيب الولايات المتحدة بلغ 21 تريليون دولار، ونصيبها مع حليفاتها من أوروبا الغربية وحدها، ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، بلغ 32 تريليون دولار. هل يمكن أن تقارع دولة تبلغ قيمة إنتاجها 1,5 تريليون دولار تحالفا يبلغ إنتاجه على أقل تقدير 32 تريليون دولار؟
•••
لا يمكن عند التفاوض افتراض عدم رشادة الطرف المقابل لأن عدم الرشادة تنفى فرضية التفاوض أصلا، فعلام تتفاوض إن كان لا يمكنك أصلا توقع رد فعل من يقابلك؟ الأمريكيون وبعض حلفائهم يهددون روسيا بأشد العقوبات إن هى أقدمت على غزو أوكرانيا: عقوبات على المصارف وشركات الطاقة الروسية، وتهديد بعدم تشغيل خط أنابيب الغاز نوردستريم 2، بل وبفصل روسيا عن النظام العالمى للاتصالات المالية المصرفية، وهو النظام العالمى الحيوى لتبادل المعلومات المالية، ما من شأنه أن يوجه ضربة قاسية للقطاع المالى الروسى. هل يمكن أن تتجاهل روسيا هذه التهديدات، خاصةً أن عدم تشغيل نوردستريم 2 من شأنه أن يحرمها من أداة عظيمة التأثير على السياسة الأوروبية؟ روسيا لا يمكن أن تتجاهل التهديدات الموجهة لها.
غير أن على الولايات المتحدة ألا تفهم أن ذلك يعنى أن تنزل بروسيا هزيمة ساحقة ماحقة. الروس عموما، وليس الرئيس الروسى وحده، ينظرون إلى بلدهم على أنه قوة عظمى، وروسيا دولة نووية عضو دائم فى مجلس الأمن، وهى لها تاريخ هائل فى الدفاع عن نفسها فى القرنين الماضيين فى مواجهة نابليون ومن بعده هتلر، ثم فى ترجيح كفة المنتصرين فى هاتين الحربين الشاملتين. ولروسيا كذلك أوراق أخرى مؤثرة هى عدم اتفاق الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى على الموقف الذى ينبغى اتخاذه منها، وهو عدم اتفاق يرتبط بالمصالح الاقتصادية التى تجمع روسيا بعدد من هذه الدول وفى مقدمتها أكبرها فى حجم كل من الاقتصاد والسكان، وهى ألمانيا. المستشار الألمانى الجديد أبعد وزارة الخارجية الألمانية، ووزيرتها المنتمية لحزب الخضر، التى تتخذ موقفا متشددا فى شأن ملف أوكرانيا، عن الملف وتولاه هو نفسه. الحزب الاشتراكى الديموقراطى الذى ينتمى إليه المستشار من كينونته أن الحوار والتفاعل هما أفضل السبل للتعامل مع روسيا وبينته على ذلك أن سياسة الوفاق هى التى أدّت انتصار فريقهم فى الحرب الباردة وإلى إعادة توحيد ألمانيا. الحزب يقدِّر، والاستطلاعات تبين أن أغلبية الألمان يظنون، أن حلف الأطلسى مسئول جزئيا عن الأزمة الحالية نتيجة لتوسعه شرقا إلى منطقة نفوذ روسيا التاريخية، حتى من قبل قيام الاتحاد السوفييتى. الاستطلاعات تكشف أيضا عن أن الألمان يعتبرون أن أوكرانيا مسئولة عن تفاقم الأزمة نتيجة لعدوانيتها تجاه روسيا. وزعيم الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكى الديموقراطى صرح مؤخرا بأنه يجب فعل كل ما هو ممكن لإبعاد شبح الحرب ولوقف التهديدات والتهديدات المضادة، ما يعنى أنه ألقى باللائمة على الطرفين.
•••
تسوية المواجهة قبل أن تتحول إلى نزاع لن تكون يسيرة ولكنها ممكنة. لعل روسيا تتعهد بعدم الاعتداء على أوكرانيا وجيرانها الذين يهمون الولايات المتحدة فى مقابل ألا يتوسع الحلف الأطلسى وقواته فى اتجاهها، وأن يكون التعهدان بضمان دولى تشترك فى تقديمه نفس الدول المعنية. هذا معناه قبول بشىء من مناطق النفوذ الروسية، وهذا ليس أفضل التصورات فى نظام دولى يفترض فيه المساواة فى السيادة بين جميع الدول. ولكن أليست دول أمريكا الشمالية والوسطى والبحر الكاريبى، على الأقل، مناطق نفوذ أمريكية لا يساءل أحد فيها؟ ولنا فى أزمة الصواريخ الروسية فى كوبا فى مطلع الستينيات من القرن الماضى تجربة لا تنسى.
يبقى أن نتمنى ألا تكون المشكلات الداخلية فى الساحة السياسية الأمريكية هى الدافع إلى ترحيل التوتر إلى الحدود الروسية الأوكرانية. ترحيل التوتر إلى مواجهات هنا وهناك ينذر بأوخم العواقب، ويفاقم المشكلات العميقة المتجذرة فى النظام الدولى وأنظمته الفرعية.
لذلك فمن موقعنا فى بلادنا، مصلحتنا هى أن تسوّى هذه المواجهة بأسرع ما يمكن حتى تنتبه معنا القوى الدولية للمشكلات المتعددة التى نعانى منها فى منطقتنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved