ومن الفتوى ما قتل

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: السبت 8 فبراير 2014 - 5:05 ص بتوقيت القاهرة

كان الصحابة والتابعون والعلماء الثقات يتهيبون الفتوى ويتوقفون فى بعض الأحيان عنها قائلين قولتهم المأثورة «لا أدرى».. خوفا من مسئوليتها الجسيمة وفرارا من تبعاتها واستعظاما لخطرها حتى قال الفقيه العظيم ابن أبى ليلى: «أدركت 120 من الأنصار فيسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.. وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شىء إلا وأحب أن يكفيه غيره».

ولكن الهوى السياسى أو الحزبى أو التنظيمى أو نفاق الحكام أو طلب السلطة أوجد ما يمكن أن نسميه الانحراف السياسى بالفتوى الشرعية.. فوقعت الفتوى الشرعية بين مطرقة بعض المفتيين غير المستجمعين لشروط الفتيا والفاقدين لأهليتها ممن يتبعون بعض التنظيمات الإسلامية لمنح الشرعية لأفكارها أو حركتها أو مواقفها السياسية.. بل وتطور الأمر بهؤلاء المفتين بمنح صك القبول الشرعى لتصرفات سياسية طائشة أثبت الزمان عدم صلاحيتها وواقعيتها.

كما وقعت بين سندان توظيف بعض الحكام للفتوى لدعم حكمهم وفرض سيطرتهم وتبييض بعض صفحاتهم السوداء.

والناس اليوم لا يحسنون التفريق بين مقام الوعظ والدعوة الذى تغلب عليه الحماسة والحث والعاطفة.. وبين مقام الفتوى الذى لا مجال فيه للعواطف ولا الحماسة ولا الكلمات المطاطة أو التعبيرات الأدبية التى قد تحمل المعنى ونقيضه.

فمقام الفتوى مقام انضباط ودقة.. فكل شىء له حكم ورتبة فى الإسلام.. فهذا واجب أو حرام أو مندوب أو مكروه.

فالمفتى أشبه بالمحاسب الدقيق الذى يزن بميزان الذهب.. ولذلك ترى الآلاف قد يصلحون للوعظ والخطابة.. ولكن القليل من يصلح للفتوى التى تحتاج لعلم غزير مع دقة القراءة للنص الشرعى وكذلك للواقع العملى وتنزيل هذا على هذا.. وهو ما يسميه الأصوليون تحقيق المناط.

واليوم يفسد الهوى السياسى والاستقطاب الحاد مجال الفتوى الشرعية كما أفسد من قبل مجالات الدعوة والتربية والحكم.. وأصبحت أكثر الفتاوى تتحدث اليوم بلسان التحزب أو التعصب السياسى.. أو الرغبة فى نصرة فريق سياسى على آخر.. فانصرف الناس عن جميع المفتين الذين سقطت فتاواهم فى وحل الاستقطاب السياسى.

لقد وقعت الفتوى الشرعية أسيرة لـ«تحريف الغالين» وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين «وهذا كله أدى وسيؤدى إلى ضمور الفقه السياسى الإسلامى الحقيقى وانزوائه تحت وطأة ضربات الحكام وأعوانهم أو وطأة بعض الجماعات والأحزاب الإسلامية السياسية.. إذ حرص كل فريق منهم على توظيف الفتوى الشرعية لمصلحته ودورانها فى فلكه بدلا من أن تكون خدمة للإسلام والأوطان.

وأنا أعتبر أن أحلك فترات الفتوى الشرعية سوادا هى هذه الفترة التى نعيشها والتى شهدت حالة من الفوضى والتسيب فى الفتوى لم تشهدها مصر من قبل حتى فى أحلك فتراتها.

فما بين مفتين يقولون للناس إن الذى يترك اعتصام رابعة يعد فارا من الزحف ثم يكونون أول الفارين.. ومن يربط الإيمان بالله والإيمان بعودة د. مرسى حاكما.. ومن يكفر الجيش والشرطة المصرية ويفتى بقتلهم تقربا إلى الله.. وأن هذا هو الطريق الوحيد لتحرير القدس.. وبين من يفتى بتطبيق حد الحرابة على مخالفيه.. وبين من يحرم المظاهرات أو يوجبها.. وبين من يكفر الإخوان أو يفتى بقتلهم خدمة لمصر وإعلاء لشأنها.. وبين من يفتى بتطليق زوجته إذا اكتشف انتماءها للإخوان المسلمين.

وكل هؤلاء جعلهم الهوى السياسى حبا أو كرها يسخرون الفتوى لخدمة السياسة فتحل للساسة ما حرمه الله عليهم.. أو تحرم عليهم ما أحله الله لهم.

إن هؤلاء لم يتبعوا فى فتاواهم البرهان والدليل الشرعى ولكنهم اتبعوا هواهم السياسى سواء كان مع الحاكم أو ضده.. أو كان مع التنظيمات والأحزاب الإسلامية أو ضدها.. هؤلاء لا يثبتون مع ثوابت الإسلام.. ولا يدورون مع الشريعة حيث دارات.. ولكنهم يدورون مع هواهم السياسى حيث دار ليضيعوا آخر ما تبقى لنا من حصون الدين والإسلام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved