إنكار الشرعية على «صفقة القرن»

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 8 فبراير 2020 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

أريق حبر كثير على صفقة القرن التى أعلنها الرئيس دونالد ترامب يوم 28 يناير الماضى وعناصرها الأساسية صارت معروفة لكل مهتم، بحيث لم تصبح ثمة حاجة لاستعراضها. لذلك وكمقدمة يتناول هذا المقال المنطق الذى يستند إليه الرئيس الأمريكى فى طرح خطته ثم يعنى بشرعية هذه الخطة ويشدد على ضرورة إنكارها عليها. المقال إذ يفعل ذلك لا يسلّم بأن الخطة قدر لا فكاك منه وهو يظن أن فى أيدى العرب الراغبين، والفلسطينيين تحديدا، أوراقا تمكنهم من هزيمة الخطة إن أحسنوا لعبها.
أول ما يخطر للمراقب هو التساؤل عما يخوّل للرئيس الأمريكى اقتراح خطته، خاصة ما يرد فيها من منح إسرائيل أراض فلسطينية. عندما أصدر اللورد بلفور وعده للحركة الصهيونية «بإنشاء وطن قومى لليهود» فى فلسطين فى نوفمبر 1917، وقيل عنه إنه «وعد ممن لا يملك، فهو كان وزيرا لخارجية بريطانيا التى كانت تحتل أغلب الأراضى الفلسطينية إبّان الحرب العالمية الأولى وفى سبيلها للسيطرة على القدس، وهو بالتالى، بعقلية المستعمر، كان يتصور أن من صلاحياته تخصيص الأرض التى يضع يديه عليها. ولكن الولايات المتحدة ليست فى فلسطين ولم يطلب واحد من الطرفين، هو الفلسطينيون، من رئيسها التوسط بينهم وبين الإسرائيليين. فى واقع الأمر، ما فعله الرئيس الأمريكى هو أنه بارك وضع يدى إسرائيل على الأراضى الفلسطينية، والحكومة الإسرائيلية اعتبرت أن هذه المباركة كافية لكى تضم المستوطنات وغور نهر الأردن ولتنفذ ما غير ذلك من أحكام الخطة. باختصار هذا معناه أن مباركة ترامب هى مصدر الشرعية. هذا تحديدا هو ما لا يمكن قبوله، بصرف النظر عن عناصر الخطة نفسها وبالإضافة إليها. لا ينبغى أن يكون صعبا تسويق عدم قبول مباركة ترامب، ومجرد إرادته كمصدر للشرعية، لدى أطراف المجتمع الدولى. وعدم الصعوبة هذا توجد عليه بيّنات.
***
أول هذه البيّنات أن الولايات المتحدة نفسها غير مقتنعة تماما بقيمة مباركة ترامب. طلبت الولايات المتحدة انعقاد مجلس الأمن فى جلسة مغلقة وهو انعقد بالفعل يوم الخميس الماضى لكى تعرض عليه خطتها. هذا لا يعنى إلا أنها تشعر بالحاجة إلى إقناع مجلس الأمن بسلامة الخطة لأنها ستحتاج إليه إن عاجلا أو أجلا. فى النظام الدولى الحديث، التنظيم الدولى متعدد الأطراف هو وحده الذى يسبغ الشرعية أو يمسك عن إسباغها.
تردد فى الصحافة فى الأيام الأخيرة أن الرئيس الفلسطينى محمود عبّاس سيسافر إلى نيويورك ليتحدث أمام مجلس الأمن ويرفض خطة ترامب وأنه سيحث تونس العضو العربى فى المجلس فى الوقت الحالى على تقديم مشروع قرار برفض الخطة. لا يجب منح هذه الأهمية رسميا للخطة. الولايات ربما نجحت فى ألا ينعقد مجلس الأمن أساسا، بالتلويح باستخدام حق النقض إن قدم أحد مشروع قرار ضد خطتها، وأن يكتفى بمشاورات جانبية يعقبها بيان صادر عن رئيس المجلس لا حجية قانونية له. وإذا انعقد مجلس الأمن وقدمت تونس ومعها إندونيسيا، كما شاع بعد ذلك، مشروع قرار فالولايات المتحدة ستستخدم فعلا حق النقض ضده. هذا سيكون بمثابة خبطة جديدة لا لزوم لها للجانب الفلسطينى. ربما لا يكون العمل على رفض مجلس الأمن للخطة الأمريكية، بمبادرة فلسطينية، أفضل سبل التحرك فى الوقت الراهن. لا بأس من الذهاب إلى الجمعية العامة؛ حيث لا يوجد حق النقض ومازالت فيها أغلبية مساندة للفلسطينيين، ولكن ثمة سبلا أكثر نفعا.
الأفضل أن تترك المبادرة فى الذهاب إلى مجلس الأمن للطرف الأمريكي ــ الإسرائيلى. هذا الطرف يستهتر بالعمل المتعدد الأطراف، وبالأمم المتحدة تحديدا وبكل القرارات الصادرة عن مجلس أمنها وعن جمعيتها العامة، والتى تمثل مجتمعةً الشرعية الدولية فى شأن القضية الفلسطينية خصوصا بل وفيما يتعلق بكل أمور المجتمع الدولى عموما. فى النظام الدولى الحديث، التنظيم الدولى متعدد الأطراف والصكوك القانونية المنظمة له هى وحدها التى تمنح الشرعية. وعد بلفور نفسه لم يكن كافيا لكى تستمر الحركة الصهيونية فى بناء ما سيصبح إسرائيل بعدها بثلاثين عاما. تطلب الأمر أن يصدر قرار من مجلس عصبة الأمم فى سنة 1920 يعتمد فيه انتداب بريطانيا على فلسطين، وهو الذى تنص وثيقته على نشأة الوطن القومى لليهود فيها. لا وعد بلفور كان كافيا، ولا اتفاق الحلفاء المنتصرين فى الحرب العالمية الأولى كان. تصديق التنظيم الدولى الوليد هو الذى كان. وإسرائيل ما كانت لتقوم وما كان يمكن لها أن تزعم أنها كانت فى موقف الدفاع عن نفسها، ما لم تكن قد حازت «شرعية»، من منظور القانون الدولى الوضعى، بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947. وبدون هذا القرار، ما كانت دول تقدم على الاعتراف بالدولة التى أعلن دافيد بن جوريون قيامها فى 14 مايو 1948.
لذلك، وبالرغم من استهتاره بالعمل الدولى متعدد الأطراف، فإن عاجلا أو آجلا، سيضطر الطرف الأمريكي ــ الإسرائيلى، أو «الترامبوى ــ الليكودى»، إلى اللجوء إلى الأمم المتحدة، ومجلس الأمن تحديدا حيث للولايات المتحدة سطوة أكبر مما لها فى الجمعية العامة، ليس فقط لإبلاغه ومحاولة إقناعه كما فعل منذ أيام، بل ليستقى شرعية لخطته باستصدار قرار منه باعتمادها أو على أقل تقدير تأييدها. وإذا أخذنا بسابق التصرفات فأغلب الظن أن هذا الطرف سينتظر حتى تطبق إسرائيل خطة ترامب كاملةً فيما يخصها ثم يتقدم للمجتمع الدولى بالأمر الواقع ليقبله صاغرا وليسبغ عليه الشرعية.
قد يثور التساؤل عن الحكمة فى الانتظار حتى تطبق إسرائيل كل ما يخصها فى الخطة وعما إن لم يكن فى ذلك مضيعة لوقت ثمين. واقع الأمر هو أن الخطة مطبقة بالفعل فإسرائيل قد أعلنت القدس «عاصمة موحدة» لها فى سنة 1980 وهى تسيطر على كل الأماكن المقدسة فيها، وهى موجودة بفعل الاحتلال فى غور نهر الأردن، وقوانينها تسرى فى المستوطنات فى الضفة الغربية. تطبيق خطة ترامب يتوهم «إسباغ الشرعية» على هذه الأوضاع. هذا هو ما ينبغى إفشاله وجعل ما يتخذ بشأنه حبرا على ورق.
***
الطرف الفلسطينى يجب أن يستغل الوقت ليتحرك فى كل الاتجاهات لحث الفاعلين الدوليين على رفض الخطة حتى لا يعتمدها مجلس الأمن أو يؤيدها عندما تعرضها عليه الولايات المتحدة. من اللازم الاتصال بالدول الأعضاء فى مجلس الأمن، وبالدول الكبرى، والمتوسطة القوة من كل المناطق. ولابدّ أن يشمل التحرك المنظمات الدولية والإقليمية والمجتمع المدنى الدولى والمجتمعات المدنية الوطنية. النشاط فى داخل إسرائيل نفسها وبين الإسرائيليين الرافضين للخطة مهم. على الرغم من أن انضمام الدول العربية أو بعضها إلى الجهد الفلسطينى هو الأمثل، فإنها يمكن ألا تفعل ذلك علانيةً. المهم هو أن تمسك الدول العربية، بما فى ذلك وخصوصا مصر، لأن الأمر يتعلق بمصادر قوتها فى العالم العربى، عن تأييد الخطة وأن تمتنع عن التعامل على أساسها. والدول التى تريد ذلك يمكن أن توفر المشورة والدعم بالتجربة والمعرفة، وأن تترك للمتخصصين والخبراء من بناتها وأبنائها أن يفعلوا هم ذلك.
البينات، كما سبقت الإشارة، عديدة على رفض المجتمع الدولى للخطة. أى متابع يعرف بالتهكم والسخرية والازدراء والاستنكار الذى قوبلت بهم. ردود الفعل فى الصحافة الدولية، كما نقلت بعضها هذه الصفحة من «الشروق» يوميا فى الأسبوع الماضى، بليغة. قوبلت بهم فى أوروبا وفى الولايات المتحدة وفى إسرائيل نفسها. دول ومنظمات للمجتمع المدنى وشخصيات ونشطاء فى كل مناطق العالم نددوا بالخطة. هؤلاء رأوا أنها تنكر على الشعب الفلسطينى ما تبقى من حقوقه، وبالتالى فهى لا يمكن أن تكون أساسا لأى سلام، وأولئك وجدوا أنها تُعَرِّض اليهود للخطر؛ لأنها ستبينهم بشكل الظالمين مما يتسبب فى اللا سامية من جديد، وآخرون خشوا من آفاق الدولة الواحدة ومن تلاشى الطابع اليهودى لإسرائيل. الاتحاد الأوروبى أعلن عن تمسكه بالشرعية الدولية، ونضيف أنه لابدّ أن الدول الأعضاء فيه متخوفة من الغضب الفلسطينى الذى يمكن أن يتحول بعضه لاجئين وإرهابا يطولونها. على أن أهم أسباب استنكار الخطة، وهو سبب لابدّ أن يشدد عليه الجانب الفلسطينى، هو أنها تضرب بالشرعية الدولية وبالقانون الدولى عرض الحائط. عدم شرعية المستوطنات هو السبب فى مقاطعة الاتحاد الأوروبى لمنتجاتها. بل إنه، حسبما صدر عن قناة تليفزيونية رسمية إسرائيلية، فإن عددا من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى يستعد للاعتراف بشكل متزامن بالدولة الفلسطينية، ضمن سلسلة إجراءات أخرى، فى حالة ما إذا أعلنت إسرائيل ضمّ المستوطنات وغور الأردن. عدم جواز ضم الأراضى بالقوة هو مبدأ أساسى فى سلامة المجتمع الدولى. إن هُدِمَ هذا المبدأ اليوم فى فلسطين فهو سيُهدَم غدا فى غيرها، ثم يتوالى هدم المبادئ. لا يمكن أن يقوم مجتمع دولى، أو أى مجتمع، بدون مبادئ وقواعد محددة. أعضاء المجتمع الدولى، خاصة الدول الكبرى بينها، باستثناء بريطانيا، لا يمكن أن تقبل بذلك، خاصة وأنها خبرت نتائج خروج الولايات المتحدة على قواعد مشتركة للتعامل فهى فرضت الرسوم على واردات الصلب من أوروبا، ورفعت الرسوم على وارداتها من الصين، ونقضت خطة العمل الشاملة والمشتركة مع إيران، وانسحبت من اتفاقية المناخ، وتراجعت عن اتفاقية تجارية مع دول المحيط الهادى، وعرقلت إعادة تشكيل لجنة فض المنازعات فى منظمة التجارة العالمية. القبول بأن تهدم الولايات المتحدة مبدأً أساسيا مثل عدم جواز ضم الأراضى بالقوة يعنى قبولا بأن يتحول التنظيم الدولى من نظام تتساوى الدول الأعضاء فيه قانونا، وإن كانت الولايات المتحدة أقواها فعلا، إلى إمبراطورية أمريكية تفرض إرادتها على وحدات سياسية تابعة لها. لا يمكن أن تقبل روسيا أو الصين أو حتى فرنسا مثل ذلك. ردود الفعل على الخطة تبين أنه ربما كان هدم هذا المبدأ القشة التى قصمت ظهر البعير، وعلى أى حال يجب على ممثلى الشعب الفلسطينى أن يجعلوا من الخطة هذه القشة. أساطين القانون الدولى وأساتذة التنظيم الدولى، من العرب وغير العرب، يمكن أن يساعدوا على بيان كيف تقوض «صفقة القرن» أسس القانون الدولى وتهدم مقومات المجتمع الدولى. فى مجلس الأمن، حلفاء الولايات المتحدة وأصدقاؤها قد يتحرجون ويمتنعون عن رفض الخطة إن طلبت ذلك تونس وإندونيسيا، ولكنهم لن يستطيعوا تأييدها صراحة وإن طالبتهم بذلك حليفتهم الكبرى.
أما إذا قال أحدهم لماذا نُضيّع فرصة الدولة الفلسطينية التى «تتفضل» الخطة بمنحها للفلسطينيين، فالرد يسير. هى ليست دولة ذات سيادة أصلا ليحافظ عليها. المعروض هو أرخبيل من البانتوستانات الواقعة تماما داخل إسرائيل والمنفصلة عن إقليم أى دولة عربية أخرى. وإسرائيل عملا هى التى توافق على قيام هذه الدولة الفلسطينية بعد أربع سنوات أو لا توافق. والأهم هو أن هذه الدولة ليست لها الكلمة الأخيرة فى كل جوانب حياتها، بينما «السيادة» تعريفا هى اختصاص الدولة بفرض قوانينها فى كل أراضيها. دولة بدون سيادة ليست دولة.
أى تفاوض على أساس الخطة هو إكسابها شرعية ليست لها. سيكون مدعاة للسخرية ومؤسفا أن يسبغ العرب أنفسهم هذه الشرعية عليها.
إسقاط «صفقة القرن» ممكن.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved