هليوبوليس مدينة الخيال العلمي

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 8 فبراير 2020 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

فجأة في أسابيع وشهور قليلة تحولت مصر الجديدة إلى منطقة بدورين مثل الأتوبيس أبو دورين أو الحافلة ذات الطابقين التي اشتهرت بها لندن منذ منتصف أربعينات القرن الماضي، وذلك بالطبع بسبب إنشاء حوالي عشرة كباري في هليوبوليس- مدينة الشمس- التي أراد البارون إمبان أن تتخذ شكل مجموعات سكانية أشبه بالواحات، وسط الصحراء، تفصلها وديان بعرض 200 متر. التخطيط الجديد نسف فكرة الواحة والمساحات الخضراء والميادين، دمرها تدميرا مثلما دمرنا حلم مصر الجديدة خلال السنوات الأخيرة بغبائنا وعدم تقديرنا للأمور والطمع في المال وقلة الذوق العام. قيل الكثير والكثير حول التحولات الكئيبة للمنطقة التي صارت تضرب بها الأمثال على سوء المصير لمجرد أن حظها العسر جعلها ممرا للعاصمة الإدارية الجديدة، وهي الحجة التي يسوقها البعض تبريرا لما يجرى تنفيذه حاليا، وستتبلور أكثر فكرة الطابقين عند إضافة عدد من كباري المشاة التي سيتم بناءها غالبا لتفادي الحوادث القاتلة التي يتعرض لها السكان كل يوم نتيجة سوء التخطيط.
عند التجول في شوارع مصر الجديدة وسط أعمدة الكباري الأسمنتية الضخمة أشعر بقطيعة مع كل ما عرفت في السابق، أحاول أن أتحول إلى منطق رأسي في التفكير، فنحن على ما يبدو مقبلون على نظام عمراني واجتماعي جديد قائم على "العمودية" مثلما في مدن الديستوبيا التي رسمها أدب الخيال العلمي، خاصة منذ سبعينات القرن المنصرم التي شهدت تغيرا في التاريخ والقيم الغربية، والتي عرفت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية موجة ثانية من ناطحات السحاب كتلك التي سبقتها في الثلاثينات. أراد وقتها بعض أدباء الخيال العلمي أن يعكسوا الواقع، بل يقدموا تنبأً مستقبليا بما سيؤول إليه الحال مع الوقت فصوروا لنا مدنا رأسية، مزدحمة، معمارها قاسي يجعلها أشبه بالمستودعات، تتمدد إلى ما لا نهاية بشكل وحشي، يطغى فيها اليابس على الأخضر، يتقلص فيها المجال العام.. ننزع فيها ملكية الفضاء العام أكثر فأكثر، لا يحق للناس فيها أن ينعموا بالحدائق سواسية، بل يتم تقسيم المجتمع بفصل الطبقات وعزلها عن بعضها البعض. ذلك هو التصور المشترك بين عدد من روايات الخيال العلمي "الديستوبية" التي تتبنى فكرة العمران الرأسي بما يرمز إليه من تراتبية في العلاقات المجتمعية والسياسية بين الأفراد.
***
لم أجد ما أستطيع أن أقارن به بين ما يحدث في مصر الجديدة ومدن أو أحياء أخرى حول العالم، فبخلاف أن هناك القليل من الأبحاث والمؤلفات التي تعنى بعلاقة الكباري والمدينة، إلا أن كل ما قرأت كان ينصب على دور الجسور في الربط بين طرفي المدن أو كقنطرة للعبور فوق الأنهار والقنوات المائية، وعلاقتها أيضا بتطور المجتمعات من زراعية إلى صناعية، خاصة مع ثورة الحديد في نهاية القرن الثامن عشر، ثم ظهور الأسمنت المسلح في أواخر القرن التاسع عشر. وحين ذكرت بعض الأوراق البحثية الأوجه الجمالية لبعض الجسور حول العالم وكيف أنها تعد أحيانا دليلا على تطور المدن والرقي الحضاري أصابتني الكآبة فورا، وفضلت أن أفكر في كوبري مثل قصر النيل الذي افتتحه الخديوي إسماعيل في العام 1872، ليكون أول كوبري يقام على نهر النيل بالقاهرة، وقد بني على أساسات من الحجارة وجسمه قائم على أعمدة من الصلب، ومع إنشائه بدأ المصريون في إطلاق اسم "كوبري" على الجسر أو القنطرة، وهي تسمية تركية مأخوذة عن كلمة(Köprü) أي الطريق الذي يربط بين مكانين.
الهروب من الحاضر إلى بعض الأمثلة التاريخية لدينا أو في بلدان أخرى كان ببساطة لأنني لم أجد شيئا مماثلا لما يحدث سوى في أعمال الخيال العلمي سواء الأدبية أو السينمائية، حتى حينما وقع نظري على صور لكوبري في المكسيك وقد غطت النباتات الخضراء عمدانه الخرسانية لم يكن هناك عدد مماثل من الكباري في مكان واحد، ولم تكن بهذا القبح. استغرقتني تفاصيل روايتين تناولتا فكرة المدينة الرأسية المخيفة التي تسودها الفوضى. الأولى هي "البناية الشاهقة" (High rise) للكاتب الإنجليزي جيمس جراهام بالارد والتي صدرت عام 1975 وتحولت إلى فيلم سينمائي عام 2016. والثانية هي "العالم في الداخل" (The world inside) التي نشرها الأمريكي روبرت سيلفربرج. كلاهما يعد من كلاسيكيات الخيال العلمي، وهما يدوران في مدن رأسية انقلبت فيها الموازين، ويعيش الناس بداخلها وفقا لطبقتهم الاجتماعية: الفقراء والكادحون في الأدوار السفلى، في حين يسكن الأغنياء والقادة والزعماء في أعلى المبنى الذي يشبه برج بابل الأسطوري.
"البناية الشاهقة" تضم ألف شقة موزعين على أربعين طابقا، الخامس والعشرون وما حوله مخصص للطبقة الوسطى، في حين يحوى الطابق العاشر كل أنواع الخدمات: بنوك، مطاعم، مدرسة، إلى ما غير ذلك. وعندما انقطعت الكهرباء عن هذا الطابق الحيوي اشتدت الصراعات في ظل الجوع، وتصرف السكان بمنتهى الهمجية والشراسة. "يحاول الجميع تسوية الأمور وأخذ حقه بيده، من خلال مواجهات ضارية وخاطفة"، كما يقول المؤلف، كذلك لا يلتزم سكان البنايات ذات الألف طابق وطابق التي تخيلها سيلفربرج في روايته "العالم في الداخل" بالمعايير الأخلاقية التقليدية، هم أيضا يضربون عرض الحائط بالمحاذير والمحرمات والخصوصية، كل ما يصبون إليه هو الرخاء المادي والتكاثر بمعايير سنة 2381 حيث تدور الأحداث.
***
هذا التوقع بطبيعة العلاقات المستقبلية داخل مدن "الديستوبيا" الرأسية طرحته أيضا بشكل مماثل أفلام مثل "ميتروبوليس"، وهو شريط صامت أخرجه الألماني فريتز لانج عام 1927، يلتزم بمفاهيم الطبقية والفصل بين عناصر المجتمع والجري وراء اللهو والترف، ثم استلهمها فيلم تحريك ياباني يحمل نفس الاسم والفكرة، مع بداية الألفية الثانية، لكن بإضافة شخصيات من الروبوت تعيش إلى جوار الآدميين ويتقاسمون ناطحة السحاب ذاتها، وفقا أيضا لتراتبية اجتماعية صريحة تضع الصفوة على رأس الجميع، تأكيدا على أننا خلقنا فوق بعض طبقات.
نرى في هذه الأفلام طرقا دائرية هائلة، ومدنا قد تحولت إلى متاهات، وأفرادا ينزلون الدرج بسرعة كأنهم يتدحرجون من أعلى التل.. مثل الذين يحاولون عبور الشارع لدينا. غالبا من فكروا في إعادة تخطيط وتنظيم مصر الجديدة، وغيرها من الأماكن، قرأوا الكثير من كتب الخيال العلمي وأدب الديستوبيا. لسنا بحاجة لأن نبذل مجهودا كبيرا لتخيل ما ستكون عليه مدينتنا في غد قريب، فهي خليط من كل هذا.. وبعض عناصر الانحطاط الكارثي موجودة بالفعل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved