العدالة إذ تحكمها مرجعيتان

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 8 فبراير 2023 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

لاحظنا أنه فى كل مرة تواجه مجتمعات الحضارة الغربية أو غيرها من الحضارات الأخرى مشكلة حياتية تهدد الأفراد أو المجتمعات فإنهم يعودون إلى مراجع قيمهم الدينية من قبل البعض أو الفكرية أو العلمية أو التجارب التاريخية من قبل البعض الآخر. ثم يعرض البعض الأمر كله على مرجعيتهم الحديثة، العقلانية، ليصلوا إلى حلول معقولة لتلك المشاكل.
نحن، عرب اليوم، نحتاج أيضا أن نفتش عن، ونعود إلى مجموعة من المرجعيات القيمية، التاريخية منها والثقافية والعلمية وغيرها، شريطة أنها حصيلة جهود ذاتية، مضافا إليها حصيلة تفاعل ندى انتقائى مع الآخرين، وذلك من أجل الخروج من فترات التيه والتخبط والتقليد الأعمى والهامشية التاريخية التى عشناها عبر القرنين الماضيين على الأخص.
لا مشكلة إطلاقا مع الأخذ بشعارات حداثية من مثل القومية أو الديمقراطية أو الليبرالية الرأسمالية أو الاشتراكية أو غيرها، طالما أنها تقوم فى جزء من أسسها وممارساتها على تعايش وتفاعل مع تلك المرجعيات القيمية الذاتية التى بنيناها. إذ عند ذاك فقط سنخرج من دوامة الاختلافات والصراعات والمماحكات فى كل مرة نتعرف على شعارات أفكار أو تجارب تأتى لنا من الآخرين. إذ عند ذاك أيضا لن نظل ندور فى دوامة الأصالة والمعاصرة أو السلفية والحداثة أو غيرهما من الثنائيات المتضادة وذلك عندما ندرك أن تعايش الاثنتين هو أمر تقرره إرادتنا وطرق تعاملنا مع أسس وتطبيقات ونوع ذاك التعايش.
نقول ذلك بسبب الجنون الذى وصلت إليه حضارة العصر الغربية (وعلى الأخص الأمريكية) المهيمنة وإمكانية أن تقود العالم، من خلال ممارسات أيديولوجية النيوليبرالية الرأسمالية العولمية، إلى الدمار الشامل أو إلى أزمات متكررة لا تنتهى الواحدة منها حتى تتبعها أخرى أقسى وأشد. خروج الحضارات الأخرى من تحت عباءة تلك الحضارة المهيمنة أصبح من ضرورات العصر، بعد أن عانى أصحاب تلك الحضارات ويلات حربين عالميتين، وحروب إقليمية مفتعلة لا تنتهى، وأزمات مالية إفقارية لا تتوقف ولا يشبع المستفيدون منها.
لنوضح الأمر من خلال التعامل مع إحدى القيم الكبرى: قيمة العدالة، التى كثرت الكتب والأحاديث والمؤتمرات التى تناقش أمرها منذ عشرات السنين. لنقارن النظرتين التاليتين إليها: نظرة الحضارة الغربية المهيمنة، ونظرة إحدى مرجعياتنا، ونقصد بها النظرة التشريعية القرآنية كأحد المراجع الثقافية الكبرى لكل العرب، وليس فقط لمن يدينون بالإسلام منهم.
فى النظرة القرآنية هناك تلازم عميق فيما بين فضيلتى الحق والعدالة. المنطلق الأول والأساسى لتقرير ما هو عادل وما هو غير عادل تحكمه شعارات أخلاقية من مثل الحق والقسط والظلم سلبا أو إيجابا:
كقوله تعالى «وممن خلقنا أمة يهدون بالحق، وبه يعدلون» أو قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر..». أو قوله تعالى «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل..». أو قوله تعالى «ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا..». أو قوله تعالى «وأوفوا الكيل والميزان بالقسط.. وإذا قلتم فاعدلوا...». فى كل مكان تفوح رائحة الأخلاق والسمو الروحى والعفة المسلكية. على ضوء وأحكام مثل تلك المنطلقات فقط ينتقل المشرع إلى أمور التنظيم والقوانين والأحكام.
لو قارنا ذلك بنظرة أحد أهم المنظرين المشار إليه كأحد أهم المصادر الفكرية والتنظيمية لشعار العدالة، الأميركى جون رولز، كما جاء فى أفضل وأشهر كتبه «نظرية العدالة»، لوجدنا أن المنطلق الأساسى الحاكم هو تنظيمى، سياسى، اقتصادى يتلخص فى مبدأين لتحقق العدالة: الأول هو الضمان لكل فرد بحصوله على عدد ونوع من الحريات مساو لما يحصل عليه كل فرد آخر، والثانى توفر، بقدر المستطاع، مستوى معقول من الحاجات المادية التى يحتاجها كل إنسان.
موضوع العدالة هنا، إذن ينطلق أساسا من ممارسات تنظيمية سياسية ومعيشية تؤمن نوعا من العدالة لإنجاح النظام الديمقراطى الذى تأخذ به المجتمعات الغربية. لا اعتراض على ذلك بالطبع، ومن الممكن للمجتمعات العربية أن تأخذ به، ولكن بعد أن تربطه أولا ربطا بالدوافع والمتطلبات والمعايير الأخلاقية والروحية الإنسانية بكل مصادرها، ذلك الربط الذى سيحمى عملية التنظيم التى يقترحها جون رولز وأتباعه.. سيحميها من التفسيرات والتقلبات والتلاعبات السياسية والاقتصادية الانتهازية التى أفسدت الحياة الإنسانية عبر العصور وسيكون أيضا مصدر وعى نضالى دائم لدى الفرد والجماعات.
مفكر عربى من البحرين

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved