لُغتنا وأحوالها فى عصر التكنولوجيا

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأربعاء 8 فبراير 2023 - 10:31 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالين حول أحوال اللغة العربية فى عصر الثورة المعرفية، ومدى تأثير التكنولوجيا الرقمية فيها.. نعرض من المقالين ما يلى.
ضجّت مواقع التواصل الاجتماعى والنشرات الإخبارية فى الأمس القريب بخبر مفاده مُمانعة لاعب كرة القدم المغربى ياسين بونو التحدث باللغة الأجنبية، فى أثناء مؤتمره الصحفى فى كأس أمم أفريقيا 2022. «هذه مشكلتكم وليست مشكلتى!» عبارة أَطلقها اللّاعب المذكور على خلفيّة طلب الصحفيين منه التحدث باللّغة الأجنبيّة، لأنهم لم يَفهموا تصريحه بالعربيّة «المحلية» (على الرّغم من أنَّه يُتقن عددا من اللغات)، لتؤدى بعدها إلى «عاصفة» فى «الشارع» العربى وانقسامه بين مؤيد لتصرفه أو معارض له. وبالعودة إلى تفاصيل حديثه بالصوت والصورة نجد أننا كعرب (أقلّه كمشرقيّين) لم نفهم منه كلمة واحدة، كونه كان يتكلّم بلغة عاميّة محليّة.. ولو تكلم بالفرنسية أو الإنجليزية لكان ذلك أجدى لنا.
تظهر هذه الحادثة تقصيرا من قبل منظمى المهرجان الكروى لعدم وجود أشخاص مُترجمين لغويين (من اللغة العربية وإليها) مُتجاهلين بذلك ــ ولو سهوا ــ التنوّع الثقافى واللغوى فى القارة الأفريقيّة.
ولكن أين نحن اليوم من لغتنا واقعيا؟ منذ قرون بدأ العرب بالتقهقر التدريجى نتيجة عوامل مختلفة، سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، فحصل نوعٌ من الجمود والسكون المعرفى الذى انسحب على اللّغة العربيّة وخَلَق هوة ثقافية ــ معرفيّة بين الأجيال الحالية وتراثها الثقافى «القَيِّم»، وازدادت هذه الهوة مع ثورة «الموجة الثالثة»، وهى الثورة المعرفيّة التكنولوجية الرقمية التى لم تشهد البشرية مثيلا لها، فكانت المُواكَبة لهذا التطور المعرفى شبه غائبة من قِبَل العرب.
من جانب آخر، حقَّقت اللّغةُ العربيّة تقدّما ملحوظا بين اللّغات العالَميّة الأخرى فى تقدّمها إلى المرتبة الرّابعة عالميّا (بعد الإنجليزيّة، الصينيّة، الإسبانيّة)، من حيث عدد مُستخدميها على الشبكة (238 مليون مُستخدِم ومستخدمة)، ومن حيث تسجيلها أعلى نسبة نموّ بين الأعوام 2000 ــ 2020 فى استخدام اللّغة العربيّة على الإنترنت بنسبة 9.348%. إلّا أنّ هذَيْن المؤشّرَيْن المهمَّيْن لم يُسهما فى جعْلِ المحتوى الرقمى العربى مُنافِسا عالميّا. إنّ اللّغة هى الوسيلة التى يتمّ من خلالها نشْرُ المعرفة والعلوم، وهى التى تُساعد فى بناء مهارات التواصل الإنسانى، وهى المرتكز الذى تُشتقّ عنه منظومة الثقافة التى تتضمّن الفكر والإبداع والابتكار والتربية والتراث والقيَم والعادات والمُعتقدات.. وهى العامل المؤثِّر فى عمليّة التواصُل الثقافى الرقمى الذى من خلالها يُمكن نقْل محتويات الثقافة العربيّة من علومٍ وفنونٍ وآدابٍ وابتكارات. إلّا أنّ المحتوى الرقمى العربى، وبحسب ما تشير إليه معظم التقديرات، يتراوح ما بين 3% إلى 12% مُقارنة بالمحتوى الرقمى العالمى. ويشكِّل ضعف المحتوى الرقمى العربى أحد أهمّ العوائق التى تُواجه بعض البلدان العربيّة فى التحوُّل إلى مُجتمع المعرفة، حيث يصعب على المستخدمة أو المُستخدِم العربى النّفاذ إلى محتوى رقمى عربى يتّصف بالضعف، كمّا ونَوعا، مُقارنةً باللّغات العالَميّة الأخرى، ولاسيّما اللّغة الإنجليزيّة، ما يُسهم فى جعْلِ الثقافة الوافدة مُهيمِنة ومتفوّقة، كونها تستطيع أن تمنح المُستخدِم فى أى بلد فى العالَم، ولأى ثقافة انتمى، المحتوى الذى يحتاجه.
باختصار، لم تستطع الدول العربيّة استغلالَ تقدُّم اللّغة العربيّة الذى احتلّ الموقع الرّابع من ضمن ترتيب لغات العالَم، وعليه فإنّ بقاء المحتوى الرقمى العربى ضعيفا وغير جاذب حتّى لمُجتمعاته، يُعرقِل بالتأكيد فُرص إبراز الهويّة العربيّة على حساب الثقافات الأخرى القادرة على جذْبِ الآخرين، وجعْلهم تابعين لها.
كما أن بعض الخطوات التى تقوم بها بلدان عربية بعينها على صعيد المحتوى العربى، جيد نسبيا، إلا أنّ آلياتها فى ذلك تعانى من بطء ملحوظ، مقارَنة بآليات الدول الأخرى. ولأن ميزة هذا العصر هى السرعة، فإن فهْمَ أبعاد السرعة والقدرة على مواكبتها هما عنصران أساسيان لجعْل لغة الضاد قادرة على إبراز الهوية الثقافية لمجتمعاتها وعلى النحو الذى تستحقه، ويليق بها.
• • •
الصعوبات متنوّعة ومتشابكة للخروج من هذه الدائرة، نذكر منها التالى:
أولا: سيادة اللغة المَحكية (العامية) على حساب اللغة الفصيحة: إن سيادة اللغة العامية المحلية ليست مشكلة اللغة العربية فقط، فهى ظاهرة مُنتشرة فى كثير من اللغات العالمية ومن بينها الإنكليزية؛ إذ إن تَطور اللغة المحكيّة وانتشارها أمر طبيعى مع زيادة التثاقف والتفاعُل بين الشعوب، بخاصّة فى عصر العولمة. لكن الخطر الكبير الذى تعرضت له اللغة العربية هو انتشار لغات عامية هجينة «عرب ــ استعمارية»، لكون الواقع السياسى للمنطقة العربية جَعَلها لقرون طويلة كمُلحقات تدور فى فضاء التبعية السياسية والثقافية، وكان للاستعمار الغربى الحديث التأثير الأكبر فى الاغتراب بين اللغة العامية واللغة الفصيحة، ما أدى إلى ظهور لغات مَحكية محلية عبارة عن مزيج بين العربية والأجنبية وأحيانا القبلية (كالأمازيغية)، وهذا أمر لا يزال سائدا حتى يومنا هذا فى العديد من أقطار العالم العربى.
ثانيا: ضعف المحتوى الرقمى على شبكة الإنترنت: لا يتجاوز معدل المحتوى الرقمى للغة العربية الآن 1.1% مُقارنة بالمحتوى الرقمى للغة الإنكليزية 61.4%، وهو مؤشِّر خطير للُغة تُصنف بين اللغات الأكثر انتشارا؛ من هنا لا بد من امتلاك الأدوات الرقمية المناسبة بغية رفد هذا العالَم الافتراضى (الذى أصبح بديلا واقعيّا فى عالَم اليوم) بمحتوى مُفيد ومُكثّف وفاعل يضع العربية فى مكانها المناسب، مقارنة برقعة انتشارها عدديا وجغرافيا، وخصوصا أن الشبكة «العنكبوتية» كان يستخدمها أكثر من 246 مليون مستخدم ومستخدمة فى العالم العربى فى العام 2021.
ثالثا: إهمال فى تحديث المناهج التعليمية للغتِنا: لا تزال المؤسسات الرسمية العربية عاجزة أو مُتجاهلة أو مُتساهلة بشئون اللغة «الأم» وشجونها؛ فتحديث المناهج التربوية، وإن حصل، أتى على حساب اللغة العربية (تقليص حصصها وزيادة حصص اللغات الأخرى). كما أن طرائق تدريس اللغة لا تزال على تقليديتها ــ فى معظم الأقطار ــ البعيدة عن طرائق التدريس الحديثة المتوائمة مع التطوّرات التكنولوجيّة التى تسهل للطلاب فى حال اعتمادها فهْم المصطلحات الخاصّة بها وبقواعدها.
رابعا: ضعف حركة الترجمة: من شروط الترجمة أن يكون المُترجم أوّلا مُلمّا باللغة الأصلية والمنقولة بموضوع المحتوى المُترجَم ومادّته، وهذه المهارات غير متوافرة لدى العديد من المترجمين العرب، بحيث يأتى المصطلح الوافد مُشوّش المعنى لدى ترجمته إلى اللغة العربية، ناهيك بندرة الترجمات للأبحاث والأطروحات العلمية والاكتشافات الحديثة المتسارعة الصادرة عن مجلات ونشرات ودوريات علمية لمؤسسات وجامعات ومراكز دراسات وتفكير.
خامسا: كثرة المعاجم اللغوية واختلاف مصطلحاتها: هذا الأمر يستدعى ضرورة توحيد المعاجم اللغوية العربية المختلفة التى تختلف بتفسير المصطلح نفسه من معجم إلى آخر.
• • •
ختاما نقول إن اللّغة أداة لإنتاج المعرفة وهى موضوع لها، وهناك عدد من المبادرات التى اتخذتها بعض الدول العربية لتعزيز دور اللغة ونشرها من خلال إنشاء مراكز ترجمة ومجمعات لغوية وجوائز تدعم الإبداع الأدبى والترجمة، حيث تم إحصاء 33 جائزة فى المنطقة، إضافة إلى رصد مبالغ سنوية كبيرة لمكافأة الإبداع الأدبى، لكن هل تكفى هذه الجهود لنشر اللغة العربية وتعزير دورها الثقافى كعنصر فاعل وند وشريك فى فضاء الحضارة الكونية؟
النص الأصلي:

1

2

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved