الثورة وأخلاقيات مكافحة الفساد

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 8 مارس 2011 - 9:52 ص بتوقيت القاهرة

 طبيعى أن تنشغل الثورة فى مراحلها الأولى بتحقيق الأهداف السياسية، التى قامت من أجلها والتى دفعت الجماهير للالتفاف حولها. ولكن على المدى الأطول فإن ما يجعل ثورة بالفعل جديرة بهذا الوصف هو ما تحققه من تغيير حقيقى وعميق فى المجتمع لا يقتصر على المكاسب السياسية المباشرة، وإنما يمتد إلى القيم والمبادئ التى تسود المجتمع وعلاقات الناس فيه واحترامهم لحقوق بعضهم البعض. والأمثلة كثيرة فى العالم على الثورات التى صارت نقطة تحول فى قيم المجتمع وأخلاقياته كما حدث مثلا فى جنوب أفريقيا، حيث فرضت الثورة فكر المصالحة على مجتمع كان تواقا للانتقام والعنف فحققت بذلك نقلة حضارية وإنسانية تجاوزت ما حققته من مكاسب سياسية. سبب هذه المقدمة هو اعتقادى أن ثورة يناير، وقد حققت جانبا كبيرا من أهدافها السياسية، قد حان الوقت لكى تستخدم شعبيتها وحضورها الجماهيرى وتضع ثقلها المعنوى وراء الدفاع عن قيمة العدالة والقانون فى هذه الأوقات المضطربة.

أقول هذا بالنظر إلى ما يشغل الناس بشأن موضوع الفساد وكيفية التعامل معه، ورغبة المجتمع فى ملاحقة الفاسدين فى مختلف المجالات. فلا خلاف على أن قضية الفساد تحتل أولوية كبيرة لدى الجماهير التى ساندت ثورة يناير، بل لعلها القضية الأهم بعد ما تم حسمه من مطالب سياسية. والفساد هو بالتأكيد المرض الأكثر فتكا بالمجتمع، لا يقل فى ذلك عن الاستبداد. ولا شك أيضا فى أهمية استثمار حالة التعبئة الجماهيرية، التى أفرزتها الثورة من أجل تحقيق اختراق حقيقى فى موضوع مكافحة الفساد. ولكن هنا يأتى دور الثورة التى تقود الجماهير وتضع ثقلها المعنوى نحو توجيهها لما يحقق المصلحة العامة والتقدم الأخلاقى للمجتمع. فملاحقة الفساد يجب ألا تقتصر على ملاحقة بعض ملفات الفساد واعتبارها نهاية المطاف.

فهذا موضوع تقوم به الجهات الرقابية والقضائية، وهى بذلك تتعامل مع ما وقع من فساد بالفعل. والتحقيقات التى تجريها النيابة العامة أو التى تحيلها إلى المحاكم سوف تأخذ مجراها الطبيعى الذى نظمه القانون. ولكن ما لا يقل أهمية هو أن يتزامن ذلك مع وضع برنامج قومى للوقاية من الفساد فى المستقبل، وأن يكون هناك فهم لطبيعة الفساد وآلياته وما يسمح له بأن يستشرى، وبأن يصبح واقعا مقننا له آليات رسمية تحميه وتنظمه بعيدا عن طائلة القانون. والأهم من ذلك يلزم إدراك أن مقاومة الفساد تأتى أولا عن طريق وضع القواعد والنظم والضوابط، التى تحدد الصواب والخطأ، وتضع الخطوط الحمراء التى لا يجوز تجاوزها، وتسمح بالسلطة التقديرية مادامت فى إطار قانونى واضح المعالم. الغموض هو حليف الفساد، وغياب القواعد والنظم حجته. وأخيرا فإن الثورة والقائمين عليها يمكنهم أيضا أن يحدثوا نقلة حضارية ليس بحرصهم على ملاحقة الفساد فقط، وإنما أيضا بإصرارهم على أن يكون ذلك وفقا لمبادئ العدالة، بكل ما يعنيه ذلك من احترام لحيدة واستقلال جهات التحقيق والقضاء، والحرص على أن يكون المتهم بريئا إلى أن تثبت إدانته، والعمل على حماية المتهمين من التعريض والشائعات والمحاكم الإعلامية، والإصرار على سلوك منهج عادل حتى مع من كانوا يتجاهلون حقوق الإنسان ومبادئ العدالة فى تعاملهم مع خصومهم.

فهذا هو ما تحققه الثورات الناجحة من تقدم فى الطبيعة البشرية حينما لا تعامل خصومها بمثل ما كانوا يعاملونها. هل من المبالغة أن نتوقع من الثورة أن تنشغل بهذا الترف فى وقت لا يزال الصراع فيه محتدما على المطالب السياسية والأمنية والاقتصادية الأكثر إلحاحا؟ هل تملك الثورة والقائمون عليها الانشغال بالعدالة بينما الجماهير تطالب بالقصاص السريع من الفاسدين؟ الوقت ليس مبكرا لكى تأخذ الثورة موقفا مبدئيا وعمليا من هذا الموضوع لأن التمسك بهذه المبادئ ليس له توقيت محدد. وهذه الثورة، التى قامت لتغيير مصر عليها واجب أن تقدم لجماهيرها نموذجا مختلفا فى العمل السياسى، وأن تجعل كل مواطن يشعر بأن ما أتت به هو تغيير جذرى فى القيم الحضارية، وأن ما سوف يكتبه التاريخ عن الثورة هو ما تحققه من تغيير فى الناس قبل نجاحها فى تحقيق مطالبهم السياسية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved