حديث الصور.. والسنوات العشر

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 8 مارس 2015 - 9:14 ص بتوقيت القاهرة

من مونترو  Montreux «الشاطئ»، إلى واشنطن «الخطاب»، إلى تكريت «الدامية»، إلى عدن «البديل»، إلى الصخيرات «الحوار». تتابعت الصورُ والمشاهدُ فى أسبوع شاءت صورُه أن ترسم ألوانُها ظلالَها المتباينة والواضحة باتساع المشهد الشرق أوسطي كله.

أوباما ونتنياهو في البيت الأبيض - ٢٠١٤ (Getty Images)

فى مونترو Montreux السويسرية الهادئة كان جون كيري، وزير خارجية الرئيس الأمريكي (الذى قاربت ولايته «الثانية» على الانتهاء) يمشي على شاطئ البحيرة مع مفاوضه ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، يتبادلان أطراف الحديث ويبتسمان لعدسات الصحفيين، فى حين كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقف متجهما ليلقي خطابا حماسيا، فى قاعة الكونجرس الأمريكي بلغة بدت وكأنه يحدد للإدارة الأمريكية «ما ينبغي» عليها عمله.

ما بدا أزمة أمريكية إسرائيلية لم تلق اهتماما فى واشنطن أو تل أبيب فحسب، بل كانت المفارقة الدالة على حجم ما جرى من تغييرات عبر السنوات العشر الماضية، أن ظلالَ الصورتين سُرعان ما انعكست «قلقًا» على منطقتنا التى بدت قصورُها المستقرة لعقود وكأنها تسبحُ فى بحر من الرمال.

•••

لم يكن علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني مبالغا حين وصف خطاب نتنياهو أمام الكونجرس، أو بالأحرى أمام النواب الجمهوريين «بالمسرحية». (يديعوت أحرونوت و Nancy Pelosi زعيمة الديموقراطيين فى الكونجرس، لم يذهبا فى توصيفهما بعيدا عن ما ذهب إليه لاريجاني). فرئيس الوزراء الإسرائيلي الذاهب إلى انتخابات صعبة بعد أيام لم يوفر جهدا فى استحضار كل مشوقات «العرض» إلى المنصة، بداية من ربطة العنق السماوية بلون العلم، وحتى الإشارة إلى ذلك الناجى من المحرقة «الذى لن نسمح بأن تتكرر..». ولكن المثير أن الذين التفوا عندنا حول شاشات التلفزيون لمتابعة «المسرحية»، وخرجوا فى اليوم التالى ليتماهوا فى تعليقاتهم مع ما قاله رئيس الوزراء الاسرائيلي «الذى يدرك الخطر الإيراني على جيرانه العرب»، مندهشين من الموقف الأمريكي المتساهل مع طهران، بدا وكأنهم لم يدركوا أن عشر سنوات قد مضت، وأن جورج دبليو بوش لم يعد يسكن البيت الأبيض، كما لم يعد بندر بن سلطان يسامره فى المزرعة (فى الصورة الفوتوغرافية الشهيرة)، وأن نظريات «المحافظين الجدد» قد جرت مراجعتها بقسوة بعد أن اتضح لمراكز الأبحاث الأمريكية خطأ «الحرب على الإرهاب» على طريقة بوش «الصفرية»، فضلا عن خطر المراهنة على استقرار زائف لأنظمة تيبست تُوفر باستبدادها، ومخاصمتها لمتطلبات المواطنة الحقة البيئة المثلى لنمو إرهاب لا يمكن مقاومته بالسلاح.

والقصة طويلة لمن يريد أن يتذكر.

مع تولي جورج دبليو بوش، المهووس بالثنائيات والتعبيرات الدينية، وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر نَحَتَ المحافظون الجدد تعبير «محور الشر»، والذى سرعان ما أصبح يرمز إعلاميا إلى إيران وسوريا وحزب الله اللبنانى، رغم أن أيا من ثلاثتهم لم يكن له علاقة معروفة بهجمات سبتمبر المفصلية تلك. بل ويَنسب الصحفي البريطاني الشهير دافيد هيرست David Hirst فى كتابه «احذر الدول الصغيرة» لريتشارد أرميتاج مساعد وزير الخارجية الأمريكي (٢٠٠١ ــ ٢٠٠٥) قوله: «إن حزب الله أسوأ من بن لادن نفسه وأشد خطرا». ترافق ذلك مع ما تسرب عن وثيقة قدمها المحافظون الجدد فى الإدارة الأمريكية وقتها إلى إسرائيل ينصحونها بتبنى مبدأ «سلام الأمر الواقع» الذى تفرضه «القوة»، كبديل عن مبدأ «السلام فى مقابل الأرض» الذى كان العرب يجتَّرونه فى قممهم الدورية بلا كلل أو ملل. وقتها كان الأمريكيون يتحدثون عن استهداف المواقع النووية الإيرانية «لمواجهة التهديد الفارسي الذى يريد تغيير قواعد اللعبة فى الشرق الأوسط»، كما يحكى هيرست.

فى صيف ٢٠٠٦ كان جورج دبليو بوش مازال فى البيت الأبيض، والذى يعود إلى مذكرات كوندليزا رايس No Higher Honor وإلى ما كتبه الصحفى الشهير سيمور هيرش فى «النيويوركر» عن الحرب الإسرائيلية على لبنان فى يوليو من ذاك العام، يدرك كيف أدت مفاجأة الأداء العسكرى لحزب الله، إلى ارتباك فى إدارة بوش التى أدركت أن اللجوء إلى الخيار العسكرى ضد إيران قد يمثل تهديدا «جديا غير مسبوق» لأمن اسرائيل، التى بدا بوضوح أنها فشلت فى حسم معركتها مع حزب الله رغم الجسر الجوي الأمريكي الذى استهدف مساعدتها بصواريخ قادرة على اختراق أهداف عميقة تحت الأرض.

التفاصيل في كتب مذكرات الدبلوماسيين السابقين كثيرة ومثيرة، ولكنها ترسم صورة لواقع (كان) قبل سنوات عشر. تغير فيها العالم كثيرا، وتغير فيها الشرق الأوسط. وكان طبيعيا أن يتغير فيها تعاطي واشنطن مع واقعه المضطرب، بعد المراجعات العميقة لمراكز الأبحاث هناك والتى خلصت إلى ثلاث نقاط رئيسة لم نُعرها ما تستحق من اهتمام:

١ـ أن الحرب العسكرية على الإرهاب مصيرها الفشل.

٢ـ أن الإرهاب وليد التطرف، وللتطرف أسبابه التى إن استمرت فلا مجال للكلام عن محاربة الإرهاب.

٣ـ أن الاحتواء بديلا عن الصدام قد يكون أكثر واقعية وأمنا. وأن الإطاحة بخامنئي وروحاني لن تأتى إلا بجيل جديد من «النجاديين»، تصبح معه الأمور أكثر تعقيدا.

•••

فى أكتوبر من العام الماضى وفى إطار الملتقى الاستراتيجى الأول لمركز الإمارات للسياسات دار الحوارُ طويلا حول السياسات الدولية «والأثر الجيوسياسى للمشاريع الإقليمية على الخليج والشرق الأوسط» ورغم أننى كنت قد أشرت فى هذا المكان سابقا إلى مادار فى حوارات الملتقى التى كانت بحكم طبيعة المشاركين من المنطقة ومن خارجها دسمة جدًا، وساخنة جدًا، «وحرة جدا»، إلا أننى قد أجد من المناسب العودة إليها ربما لنناقشها مرة أخرى فى ضوء صور مونترو وواشنطن، وأخبار تكريت وصنعاء واجتماع الليبيين فى الصخيرات. وكانت ورقة النقاش الرئيسة يومها والتى كانت أرضية للحوار أشارت إلى ما يلى:

ــ أن النماذج النظرية لفهم وتوصيف النظام الدولي مابعد الحرب الباردة (القطبية الأحادية / التعددية / الفوضى وانعدام التوازن) لم تقو على تفسير كل المتغيرات فى حركة النظام الدولي الجديد مما يستلزم قراءة جديدة لهذا النظام.

ــ تغيرُ طبيعة العوامل المُحَرِّكة للصراعات والنزاعات فى النظام الدَّولي، والتى لم تَعُد اقتصادية فحسب، وإنّما حضاريّة ودينية وطائفية.

ــ ظهور متغير الأقليات، الذى بات يُهدد دولا كثيرة بظهور حركات انفصالية، أو مطالبات بالاستقلال.

ــ تصاعد دور الفاعلين من غير الدول، وتشابك دورهم مع مصالح وأهداف قوى إقليمية ودولية.

ــ انفجار الجغرافيا السياسية الناتجة عن تفكك الإمبراطورية العثمانية والهندسة الاستعمارية الأوروبية (سايكس – بيكو).

ــ دخول بعض القوى الإقليمية «غير العربية» مثل إيران وتركيا، لاعبا داخليا فاعلا فى المنطقة ومؤثرا فى أزماتها وتوازناتها.

ــ تَداخل الثورات العربية مع التحولات الدولية والمشاريع الجيوسياسية.

ــ دخول المنطقة فى حرب طائفية، لا يمكن التكهن بالمدى الذى ستصل إليه.

ــ ازدياد فاعلية التطرف الديني فى المعادلات الحاضرة.

ــ إن حالة الاستنزاف المتبادل بين المشاريع والقوى الإقليمية لن تؤسس لقيام نظام إقليمي مستقر، بل قد تغير خريطته؛ بما يجعل أى نظام إقليمي قادم يحمل بذور انهياره داخله.

ــ إلى جانب دول المنطقة التى تعيش حالة من عدم الاستقرار، هناك دول أصبحت أراضيها ميدانا لحروب بالوكالة بين المشاريع الجيوسياسية الإقليمية والدولية.

ــ لا يمكن التنبؤ بنتائج الحملة الدولية على «داعش». كما أنه ليس ممكنا النجاح بالقضاء على مثل هذا التنظيم دون محاربة البيئة المحفزة التى أنتجت هذه الظاهرة.

ــ لا يصح لبعض الدول الزعم برغبتها بمحاربة الإرهاب فى الوقت الذى تحفز سلوكياتها على بقائه وتصاعده.

ــ علينا أن نفكر فى مخاطر «ما بعد الداعشية»؛ فانهيار تنظيم «داعش»، سيقود إلى تشتيت «خريطة بشرية قتالية» هويتها الأمنية غير مضبوطة؛ الأمر الذى ستنتج عنه مخاطر أمنية إقليمية ودولية.

...........

والحال هكذا (إن صح التوصيف) فما العمل؟

يومها طرح الباحثون المتحاورن ثلاثة أسئلة رئيسة أحسب أنها مازالت تنتظر الإجابة:

١ـ إلى أى مدى يحتمل النظام الإقليمي فكرة القطب الإقليمي الواحد، أو حتى مفهوم القوة العظمى الإقليمية، خاصة بعد ما بدا من صراع المشاريع الجيوسياسية فى المنطقة، وانحسار قوة بعضها وإعادة ترتيب أولويات بعضها الآخر؟

٢ـ إلى أى مدى يمكن وضع قواعد جديدة، يتفق عليها الجميع لوقف تصادم الرؤى الأمنية للقوى الإقليمية والدولية، والبحث عن نقاط الالتقاء التى تعزز التعاون، وتساهم فى بناء نظام إقليمى تقل فيه الصراعات والحروب؟

٣ـ ثم إلى أى مدى يمكن بناء بيئة من التسامح والتعايش، وفق قاعدة المنافع المتبادلة، وحق كل إنسان بالاختلاف؟

•••

وبعد..

فليست لدى بالطبع الإجابة، ولكنى من الذين قرأوا أن «فاقد الشىء لا يعطيه» ولهذا فلست متأكدا من قدرة أنظمة لا تعرف حق مواطنيها فى الاختلاف والمساواة، عن الإجابة الآمنة على مثل تلك الأسئلة، كما أننى لست متأكدا من قدرة الذين لم يدركوا حقائق العصر، على العيش بسلام فيه.

...........

«كلنا فى الهم شرق».. لا فارق كبير. ولكن على سبيل المثال (لا الحصر) علينا أن ندرك أن الاهتمام الإعلامي بالفظائع المتلفزة لقوات «الدولة» الإسلامية ISIS لن تحول دون تذمر سكان مناطق العراق السنية من تجاوزات متوقعة لقوات جيش «الدولة» العراقية، أو جناحها المليشياتي «الحشد الشعبى» الذى ترفع طوابيره العسكرية أعلامه الطائفية المميزة. ويخطئ من يعتقد أن عملية تكريت الضخمة ستسدل الستار على صراع عراقي / عراقي أساسه طائفي، طالما ظلت أسبابه قائمة؛ دولةٌ فشلت لعقودٍ فى إدارة التنوع بين مواطنيها تمييزًا وإقصاءً، أيا كان معيارُ التمييز؛ الانتماء إلى «البعث» زمنَ صدام أو الطائفة فى زمن من بعده.

هذا فى الحالة العراقية، أما فى غيرها فنعرفُ جميعا أن «المعايير» فقط تختلفُ باختلاف العناوين.

ثم يبقى أن «حديث الصور» يقول لنا بوضوح: أنه سواء اعترفنا او لم نعترف فكثيرٌ من أوراق اللعب باتت الآن فى يد قوة إيرانية حقيقية استفادت من انشغال أنظمة الحكم العربية بالحفاظ على السلطة. أما بقية الأوراق فمازالت في يد «حاوٍ» إسرائيلى يُصفقُ له نوابٌ يدركون قوة اللوبى اليهودى عند صناديق الاقتراع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
Facebook: AymanAlSayyad.Page
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة:
ــ العراق .. في القصة تفاصيل أخرى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved