الكتاب...

حسام السكرى
حسام السكرى

آخر تحديث: الأحد 8 مارس 2015 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

داعبت أمى خيالى بحكاياتها عن جدى الكبير حامد الدميرى. كان جدى يمتلك مكتبة ضخمة، تراصت فيها الكتب على رفوف تمتد من الأرض إلى السقف، فى قاعة بالغة الاتساع بناها على سطح المنزل. وكان جدى، طبقا للرواية، يقضى معظم وقته فى مطالعة كتبه النادرة، ومراقبة النجوم والأفلاك من هذه القاعة التى لا سقف لها.

أحببته رغم أننى لم أره. ومنذ سمعت الحكاية، وانا دائم البحث عن الكتب والمكتبات لأنها تذكرنى به.

كونت مكتبتى فى سنة مبكرة. وقد ازداد حجمها بعد اكتشافى لباعة الكتب القديمة على سور الأزبكية، وسور السيدة زينب، وسور مدرسة الراعى الصالح فى شارع شبرا.

كنت أظن وقتها أننى سأتمكن يوما ما من قراءة كتب العالم كلها. اقتنيت الكتب بكل ما توافر لدى من مصروف أو من مكافآت التفوق. وفى الوقت ذاته كنت دائم البحث عن المكتبات العامة. فكتابى لن يطير ويمكن أن أقرأه فى أى وقت. أما كتاب المكتبة فهو الأولى بالاطلاع لأنه ليس فى حوزتى، ولا أضمن أن يظل متاحا للقراءة.

وعندما اكتشفت أن حى شبرا فيه مكتبة عامة، طرت من الفرح. كانت المكتبة تقع فى شارع جانبى خلف مدرسة الراعى الصالح، غير بعيد عن «دوران شبرا» أو شارعها الرئيسى. احتلت مبنى قديما تصعد إليه من سلم خارجى، لتدلف إلى غرفة واسعة تتفرع منها غرف أخرى استقرت فيها كتب فى مختلف التخصصات. لست متأكدا هل كانت أرضية المكان خشبية بالفعل، أم أن الذاكرة تعتقد أن الخشب هو الأنسب للحكاية، ليتماشى صريره الهادئ تحت قدمى الصغيرتين وقتها، مع أصوات العصافير المتسللة من الأشجار القريبة، والرائحة الزكية للكتب القديمة على الرفوف؟ كان المكان هادئا وبديعا.

كنز الكتب المنتشر على الرفوف كانت تعلوه علامات وأرقام، عرفت فيما بعد أن اسمها تصنيف ديوى، الذى اخترعه الأمريكى ملفيل ديوى عام 1878.

بمقتضى هذا التصنيف تأخذ الكتب أرقاما تبعا للتخصص. الأديان مثلا تحت رقم 200، واللغات تحت رقم 400. رقم الكتاب يسهل لك تصنيفه والبحث عنه. الإسلاميات ستكون تحت الأديان فى رقم 297 واللغة الإنجليزية ستصبح تحت اللغات فى رقم 420.

كل شيء فى المكتبة كان جميلا، باستثناء النظرات اللاهبة للمشرفتين الجالستين بالقرب من الباب. كانت تشعرنى بعدم الارتياح، وتقول «هذا طفل.. هو حتما لص أو مشروع لص.. دعنا نتابعه». لذا كنت اسرع بالاختباء فى الغرف الداخلية والتقليب فى كتب العلوم والأدب والتاريخ.
إلا أن الفضول كان يحرقنى للنظر فى مجموعة من الكتب تراصت على رفوف تواجه مكتب المشرفتين. كانت تعلوها لافتة كتب عليها «معارف عامة» وإلى جوارها رقم مثير: 000.

ترددت على المكتبة مرارا وكانت عيناى تنجذبان دوما للرقم الغامض. حسمت أمرى مرة واستجمعت شجاعتى ومشيت نحوها بهدوء. امتدت أناملى لتلمس كتابا من كتب المجموعة 000. سحبته بهدوء ثم تسمرت فى مكانى عندما ارتفع صوت حاد ترددت أصداؤه فى جنبات المكتبة: «بتعمل إيه عندك؟.. كتب الأطفال جوة».

ابتلعنى شعور مخز بالخجل، فتركت الكتاب وأسرعت لأختفى فى غرفة داخلية بعض الوقت، ثم تسللت بعدها خارجا من المكتبة فى هدوء.
كانت هذه زيارتى الأخيرة، ولم أعد لمكتبة شبرا مرة أخرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved