مناحات أور

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الإثنين 9 مارس 2015 - 11:58 ص بتوقيت القاهرة

«الجدران المتينة قد تهاوت، والناس ينوحون. وعند البوابات العالية وفى الطرقات، تكدست الجثث»، ما جاء قديما فى مرثية تخريب مدينة أور، عاصمة السومريين، ينطبق اليوم على زميلتها الآشورية حيث الضفة الشرقية لنهر دجلة شمالى العراق، إذ فجر أخيرا أعضاء داعش أسوار نينوى التى تمتد لأكثر من 12 كيلومترا وبها 6 بوابات وأبراج دفاعية يرجع تاريخها إلى العصر الآشورى الأخير، بين العامين 911 و612 قبل الميلاد. و من بعدها كان تدمير مدينة "نمرود"، الآشورية أيضا، بالمحافظة نفسها.

القلب يعزف ترنيمة حزينة على ناى القصب، كما فى مناحات بلاد الرافدين التى لا تفارق سكان المنطقة، يرددونها فى البيوت على أنها طور من أطوار الغناء، فقد كتب عليهم أن يبكوا مدنهم المدمرة، بل تعد مناحات المدن واحدة من أقدم نصوص الرثاء التى وصلت إلينا وجزءا مهما من الأدب السومرى والأكدى. تصف هذه البكائيات ما حل بالمدينة من تدمير وكيف هجرها الناس والإله، فهو غاضب منها واتخذ قرارا بتدميرها: «ملك الديار، هجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح (...) سعيت إلى شعبى كما البقرة على عجلها فلم أستطع نشله من الطين، لأن الحزن والأسى قد قدرا على مدينتى. حتى لو نشرت جناحى وطرت إليها مثل طائر، فإن أور ستدمر فوق أساساتها، أور ستفنى فى مكانها». لا نعلم من نظم هذه المرثية فى 435 سطرا خلال النصف الأول من الألف الثانى قبل الميلاد، لكى يصف الهجوم الذى شنه العيلاميون الإيرانيون وقبائل السوبارتو البدوية على مدينة أور، ولا نعلم من نظم مناحات المدن الأخرى، لكن هناك دائما أبدا أوجه للتشابه، كأن التاريخ يكرر نفسه دون أن نتعلم من التجارب السابقة.. ولا يزال الشعب يقضى يومه فى النواح والنحيب.

•••

ينتفض العالم لكل ضربة فأس تذبح تمثالا تعتبره جماعة داعش ضمن أصنام وأوثان القوم السابقين، لرؤية مخطوطات مكتبة الموصل وهى تحترق، ومن قبلها كان سوق حلب ومسجدها الكبير وكنائس وأضرحة فى مصر وتونس وليبيا أو لتخريب آثار تومبكتو، مدينة الأولياء الصالحين بمالى، أو عندما دمر طالبان تمثالى بوذا فى أفغانستان عام 2001، ومن بعدها بعامين حين نهب متحف بغداد وأقامت القوات الأمريكية قاعدة جوية على أنقاض منطقة أور الأثرية.. ثم بعد أسابيع تطوى هذه الصفحات السوداء، وكأنها لم تكن. يتم فرض وضع جديد، بعد فترات من التداخل والإرباك المتعمد. ندلف إلى زمن الأديان بلا ثقافة ولا تاريخ، فهى حرب على كل المستويات، والأخطر فيها هو تلك الرغبة المحمومة فى إبادة ذاكرة المنطقة، مثلما حدث من قبل مع الفلسطينيين.. خطوة نحو إزالة الهوية الأصلية للبلد حتى لا يتم تناقل هذا الإرث الحضارى عبر الأجيال. ومهما بذلنا من مجهود للحفاظ على الذاكرة، لا يتساوى أبدا من تربى فى كنف المعبدولمس أحجاره وعاش بين مدقات القصور القديمة، ومن سمع عنها أو قرأ أساطيرها فى الكتب فقط.. التأثير هنا ودرجة التشبع يختلفان إلى حد بعيد، فليس من سمع كمن رأى وحس ولمس واشتم الرائحة حتى تسربت إلى مسامه وصارت جزءا لا يتجزأ من شخصيته. فى هذه الحالة الأخيرة يظهر التراكم الحضارى، يصبح مواطنو هذا البلد غير قابلين للتشكيل السهل، لأن تركيبتهم أعقد بكثير، وهو ما حدث فى مصر على سبيل المثال حين حاول البعض تغيير ثقافة المجتمع بشكل مباغت وسريع. كان الرد: صعب أن تمر جرافة التاريخ من هنا، وصعب أن تفصل بين الشعوب وماضيها. كان الرد: سنكون دروعا بشرية لحماية الأضرحة بأرواحنا، فهى ليست مجرد عمارة بل وعاء للذاكرة، قد نتعبد بدونها، لكن لا نستطيع التذكر بدونها، فالمعمارى حين يصمم مبنى فهو يترك بصمته الخاصة وبصمة العصر الذى عايشه وذاكرته.

•••

ذلك هو الجسر الذى يرغب الداعشيون وأمثالهم فى تحطيمه لينشأ جيل لا يعرف سوى تعاليم البرابرة والمرتزقة وسلوك الغوغاء وفرقة السياسة، جيل لا تلمح فى عينيه الزهو حين يزور متاحف العالم فيجد قطعا أثرية من بلاده وقد ملأت خزانات العرض، جيل لم يشعر برمزية البوابات والأسوار الضخمة كالتى هدمت فى نينوى، وارتباطها بقومية الدولة واستمرار الأمة، فالعمارة الصروحية ما هى إلا إحدى تجليات هذه الروح القومية على الأرض، ومن هنا كانت أقواس النصر وأسوار المدن التى تفكك وتفجر يوما بعد يوم، فى عصر لا ينفع فيه سوى البكاء. يتم تحطيم ما كبر حجمه أمام الكاميرات للدعاية والترهيب، وحمل وبيع ما خف وزنه وغلا ثمنه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved