الإقناع ضرورة حياة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 8 أبريل 2015 - 9:45 ص بتوقيت القاهرة

كنا نداعبها ونلاعبها ونتوسل إليها وأحيانا نعنفها لتأكل. نقضى مع كل وجبة ساعة أو أكثر نتفنن فى ابتكار وسائل لإقناع طفلتنا بأنها لاشك جائعة. أظن أن ولعى بدراسة سيكولوجية الأطفال بدأت مع الصعوبات التى واجهناها خلال محاولاتنا على امتداد عامين أو أكثر إقناع صغيرتنا بأهمية الأكل. يا ألله، كم من حوافز خلقنا وعرضناها عليها وكم من عقوبات بكل الألم فرضناها. كانت بالنسبة لى تجربة مفيدة لتنمية موهبة الإقناع وكانت بالنسبة لها درسا مهما فى التدرب على مقاومة الإغراءات والدرس الأهم فى تعزيز الصمود.

مرت سنوات. كبرت فيها صغيرتى حتى رأيتها تفعل مع ابنتها ما كنا نفعله معا. راقبتهما وهما يمارسان عملية الإقناع، واحدة تبدع فى ابتكار أساليب جديدة بصبر لم يكن من خصائلها والثانية تبدع فى ممارسة أساليب الرفض والتمرد والصمود.

•••

سمعت عن انفضاض المشاهدين عن متابعة كثير من برامج الكلام على القنوات الفضائية، رحت أسأل منفضا بعد آخر عن سبب انفضاضه بعد أن كان من ملازميها المتفانين، لا يفارق برنامجا إلا ليلتحق بآخر. تعددت الإجابات واختلفت باختلاف درجة التسييس ومستوى التعليم والثقافة والمواقف الإيديولوجية وتجربة المجيب الشخصية مع ثورة الربيع سواء فى أيام أوجها كما فى أيام كمونها.

تعددت الاجابات، إلا أن إجابة واحدة تصدرت كل الاجابات تكرارا وقوة. قال أصحابها إنهم تخلوا عن متابعة برامج الكلام وتوقفوا عن الاستماع إلى المداخلات المطولة لمتحدثين مخضرمين عندما لاحظوا أنهم ينتهون غير مقتنعين. البعض منهم لا يقتنع بالحجج، وأغلبها صار متكررا لا جديد فيه، وبعضهم لا يقتنع بأهمية الموضوع، فالقضايا التى تشغل الناس لا تشغل بالقدر نفسه أهل الكلام، وبعض آخر صار يشك فى مسوغات اختيار المتكلمين. آخرون قالوا إنهم لا يرتاحون إلى أسلوب تعامل كثير من الضيوف مع المشاهدين، يعاملونهم بعلوية شديدة، وبذهنية «أنتم جاهلون ونحن العارفون»، استوقفتنى ملاحظة أحد المشاهدين حين قال إن بعض «المتكلمين»، يكاد يقول للمشاهدين انظروا لى وركزوا، فأنا أهم من الموضوع الذى جئت للكلام فيه، وأهم من هذا المذيع الذى لم يهتم بالإعداد لبرنامجه، وغير عابئ بالمشاهد الذى يتصور أنه أقوى منى ويستطيع إيقافى، بل إلغاء وجودى من على الشاشة، بنقرة واحدة على جهاز فى يده. دعه ينقر أما أنا فباق أمام الكاميرا رغم أنف أى ممسك بريموت كونترول».

•••

كثيرون يقبلون الدعوة للظهور على الشاشة فور تلقيهم إياها. يسود الاعتقاد بين عدد من هؤلاء أن الكلام على الشاشة، أو من فوق منبر فى مؤتمر، أو فى حلقة نقاش، لا يحتاج إلى إعداد. تعودوا على أن أصحاب الدعوة غير متخصصين وفى الغالب غير مهتمين. هؤلاء لا يلفتون نظر المتكلم «الخبير أحيانا» إلى أخطاء جسيمة فى معلوماته التى يتفضل بها، بل إنه يخرج من استوديو إلى آخر ويكاد يكون ضيفا دائما. يبدو أن الأطراف المتواطئة صارت تعتقد أن الناس، لا تفرق بين الغث والسمين، تنصت إلى كل ما يقال بغير تدقيق أو اهتمام تماما كما تأكل كل ما يقدم لها وإن ساء صنعه أو زاد ضرره.

أعتقد أن بعض هؤلاء المتكلمين لا يدركون أهمية الدور الذى يجب أن يقوموا به. لا يدركون أن وظيفتهم هى الاقناع، وليس مجرد «الكلام»، لا يدركون أيضا أن المتكلمين هم من سلالة نساء ورجال عظام مارسوا منذ القدم، خاصة فى عصر الرومان، فن الخطابة، أى فن الإقناع. الخطيب الناجح كالسياسى الماهر كالأستاذ المتميز هو ذلك الشخص القادر على إقناع مستمعيه. تغلبنى الدهشة أحيانا حين أجد أمامى على الشاشة بصفة تكاد تكون منتظمة، وبشكل يكاد يكون إجباريا، متكلما معينا يقول كلاما تعودنا أن نحكم عليه بأنه غير مقنع. لم نقتنع بما قال، ولعله لم يدرب نفسه على إقناع الآخرين، أو ربما لأنه يقع فى الأخطاء الشهيرة التى يقع فيها كثير من «محترفى الكلام» ومخاطبى الجماهير.

•••

أول هذه الأخطاء، هو ميل المتكلم إلى استخدام آيات قرآنية وأحاديث دينية لتعويض العجز فى حججه ولإجبار المستمع على الاقتناع. آخرون يلجأون إلى حشو خطبهم بأقوال مأثورة عن رئيس الدولة وغيره من زعماء المجتمع.

الخطأ الثانى، وهو خطأ كفيل وحده بفقدان ثقة المستمع أو المشاهد، يقع فيه المتكلم حين يجمع فى شخصه وظيفتين، وظيفة الطرف المنحاز فى قضية بعينها ووظيفة «الحكم » متنقلا بين الوظيفتين بحرية أو قل بعشوائية مفرطة. مثل هذا الخطأ يكاد يمارسه معظم مذيعى ومتكلمى «الدولة»، أو المكلفين منها، أو الذين نشأوا بيروقراطيا وسياسيا فى أحضانها حتى صاروا ينكرون وجود رأى آخر، وإن وجد فهو «خيانة وطنية أو شذوذ أخلاقى أو عمالة أجنبية»، أتصور أنه لا حوار جادا أو جدلا مفيدا يمكن أن يتحقق إذا كانت إدارته فى يد شخص لا يفصل بين وظيفتى الانحياز والتحكيم. مثل هذا الشخص، وهذا الأسلوب، نتاجان لثقافة تعتمد منهج الوعظ والإرشاد على حساب منهج الحوار والجدل. فالوعظ أو الإرشاد لا ينشئ علاقة متوازية أو متكاملة، وإنما علاقة علوية، طرف أعلى يفتى ويملى وطرف أدنى لا يحق له أن يجادل أو يرفض.

•••

الخطأ الثالث يقع فيه متكلمون عديدون حين يهددون المشاهدين بأن مصيبة كبرى ستحل بالوطن أو بالأمة إذا لم نقف صفا واحدا وراء ما يقول ويدعو إليه. نسمع لمن يقرر أن إيران سوف تحتل كل أراضى العرب وتحول شعوبهم إلى مذهبها الدينى، لو أننا لم نقف صفا واحدا خلف تحالف بعينه، أو لم نستجب إلى دعوة نتنياهو بشن حرب إسرائيلية مشتركة ضد إيران. نسمع فى الوقت نفسه من يعدنا بحرب جهاد لا تبقى ولا تذر لأننا خرجنا عن سير السابقين حتى وإن فشلوا. بل وهناك من يذكروننا من خلال الشاشة كل صباح ومساء بجهنم وبئس المصير.

•••

هذه الأخطاء، إلى جانب أخطاء أخرى شائعة مثل الاعتماد على العبارات الإنشائية لتعويض النقص فى الحجج المقنعة، ومثل التهرب من النقاش والحوار بحجة ضيق الوقت أو غياب التخصص الدقيق لدى جماهير المستمعين والمشاهدين، ومثل الضعف الشديد فى اللغة، أخطاء تتسبب فى فقدان الثقة بين المتكلم والمتلقى، وفى فقدان المتكلم لصدقيته وخفض قدرته على الإقناع.

•••

هذه الأخطاء نفسها، مجتمعة أو متفرقة، وقع فيها أغلب المتكلمين فى القمة العربية التى انعقدت فى شرم الشيخ الأسبوع الماضى. لا غرابة فى أن القمة لم تكن مقنعة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved