الإسلام السياسى: مائة عام من الارتباك والعنف!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 8 أبريل 2017 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

على الرغم من أن تجربة الإسلام السياسى ذات تنوع كبير من حيث التطبيق سواء كان هذا التنوع مرتبطًا بالتباين الجغرافى أو التاريخى أو حتى بسبب اختلاف طريقة التعاطى البشرى مع النصوص المقدسة، فإن هناك مفاهيم يمكن اعتبارها محورية عند محاولة تحليل هذه التجربة سياسيا. مفاهيم مثل «الخلافة»، «الشريعة»، «الأمة» تظل شبه ثابتة ومعبرة عن «الحلم الإسلامى» الذى عادة لا يتحقق على الرغم من تعدد المحاولات وتنوع أدواتها. كذلك فإن مفاهيم وعبارات مثل «القوانين الوضعية» أو «الفصل بين الدين والدولة»، أو «العلمانية» أو «الديموقراطية» قد لاقت كذلك درجات متباينة من المعارضة والتحريم وربما فى أحسن الأحوال «التردد» و«الارتباك» من قبل عدد كبير من علماء الدين الإسلامى.
منذ انهيار الإمبراطورية (الخلافة) العثمانية وحتى اللحظة مر ما يقرب من قرن كامل من الزمان تنوعت التجارب الإسلامية نظريا وتطبيقيا فى مرحلة ما بعد الخلافة، وكانت معظم هذه التنويعات ردود أفعال على تطورات سياسية متعددة. يمكن فى هذا الاعتبار التفرقة بين خمس مراحل متنوعة من تطور تجربة الإسلام السياسى فكرا وحركة مع الاعتراف بأن هذه التفرقة قد تكون بها قدر من التبسيط الذى أرجو ألا يكون مخلا بأهداف التحليل فى حدود المساحة:
المرحلة الأولى كانت مرحلة الصدام مع الحداثة، صحيح أن التعاطى مع فكرة الحداثة كان سابقا لانهيار الإمبراطورية العثمانية، لكن تزايد هذا التعاطى مع اتخاذ طابع أكثر تصادما بعد انهيار العثمانيين وسيطرة الدول الاستعمارية على المنطقة، وهو ما جعل مفاهيم الدولة القومية والقوانين الوضعية والأحزاب وغيرها من مؤسسات ومواثيق الدولة الحديثة يُنظر لها بشكل عدائى كونها تشكل أدوات سيطرة «صليبية» على العالم الإسلامى.
جاءت المرحلة الثانية بعد حصول معظم الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام مع نهاية الحرب العالمية على استقلالها حيث أخذت معظم تيارات الإسلام السياسى موقفًا عدائيًا من الحركات القومية الصاعدة بقوة على أنقاض الاستعمار، ربما مع بعض الاستثناءات الوقتية فى قليل من الدول مثل باكستان على سبيل المثال كون أن القومية الباكستانية ظهرت منذ البداية متطابقة مع الهوية الإسلامية لشعوب شبه القارة الهندية.
مع فشل معظم الحركات القومية فى تحقيق وعودها السياسية والاقتصادية ومع ضحالة مشاريعها الحداثية بالإضافة إلى قيامها بالتنكيل بالإسلاميين واستبعادهم تماما فى معادلة صفرية للسيطرة على السلطة بدأت مرحلة جديدة تسعى نحو «الصحوة الإسلامية» واستغلال الهزائم السياسية والاقتصادية للحركات القومية، كان الانتصار الأبرز فى الواقع مفاجئا بعض الشىء، فقد نجح المشروع الإسلامى الإيرانى فى تحقيق أول تجربة حديثة ناجحة للدولة الإسلامية بنجاح الثورة الإسلامية هناك مع نهاية السبعينيات، وعلى الرغم من أن نجاح المشروع الإسلامى فى إيران جاء فى سياق مخالف بعض الشىء لسياق الصحوة من حيث كونها دولة شيعية أولا ومن حيث تمسكها الشديد بقوميتها الفارسية من ناحية ثانية، لكن لم تمنع هذه السياقات المخالفة من إثارة حمية الحركات الإسلامية السنية فى السعى نحو تحقيق الهدف ذاته!
المرحلة الرابعة يشير لها البعض بمسمى «ما بعد الإسلامية» ــIslamismPost والتى ارتبطت بالعديد من المفكرين أبرزهم «آصف بيات» والتى كانت تشير إلى عدم قدرة مرحلة الصحوة على تحقيق الحلم، فالمحاولات تحول معظمها إلى صدام عنيف مع الدول القومية انتهى بانتصار الأخيرة وتشتت الإسلاميين مرة أخرى فى مرحلة مهدت لظهور جيل جديد من الإسلاميين أكثر تجاوبا مع معطيات العصر ووسائل التواصل الحديثة تخطى (على ما بدا فى تلك المرحلة) الانقسامات الأيدولوجية مع نفس أبناء جيله من تيارات غير إسلامية بحيث شارك «الهم الجيلى» دون التقيد بالأيدولوجيات الجامدة مبدئيا قدرا كبيرا من المرونة تجاه الدولة القومية.
كانت المرحلة الخامسة والأخيرة هى مرحلة الثورات العربية والتى أوصلت الإسلاميين إلى الحكم بين مسيطر أو مشارك فى مصر وتونس وليبيا والمغرب حيث تحول الإسلاميون من المعارضة إلى الدولة، من المنفى إلى «الوطن»، من «الحظر» إلى «الاعتراف»، من الأطراف والهوامش إلى قصور الحكم ومقر قيادة السلطة لتبدأ فترة بدت وكأنها ستطول وستغير التاريخ لتعيده إسلاميا بعد مائة عام من أفول الخلافة الإسلامية العثمانية لكن وبعد فترة قصيرة من التردد والارتباك والصدامات حتى بين الإسلاميين بعضهم البعض، خسروا السلطة فى العديد من هذه التجارب أو على الأقل عادوا إلى الهامش مرة أخرى مما عجل بعودة السيناريو العنيف الرافض لفكرة الدولة وترتيباتها الحديثة مرة أخرى.
مائة عام من التردد والاختلاف والتنازع البينى (الإسلامى - الإسلامى)، مائة عام من الارتباك بين الإصلاح والثورة، بين مقاعد السلطة وصفوف المعارضة، بين العنف والسلمية، بين العمل المجتمعى التربوى وبين الصراع على السلطة، بين قبول الدولة القومية والتمرد عليها، بين المراجعات والتراجعات، كيف نفهم هذا الطريق الطويل من الصعود والهبوط ؟
الإجابة البسيطة المباشرة على هذا السؤال يمكن فهمها فى إطار مقارن، فإذا ما قمنا بتحليل التجربة الشيوعية أو الاشتراكية أو الليبرالية أو الرأسمالية أو القومية سواء على المستوى الفكرى أو التطبيقى فى نفس هذه المدة تقريبا (منذ عشرينيات القرن الماضى وحتى اللحظة)، سنجد نفس القدر من التنويعات والصعود والهبوط، النجاح والفشل والتنازعات البينية، أى أن جزءًا من التفسير يذهب لطبيعة التطور البشرى نفسه ومحاولة الانطلاق من أفكار كلية (الإسلام، الليبرالية، الشيوعية..إلخ) وتغير الواقع بها، بيد أن مستوى الارتباك فى التجربة الإسلامية يبدو أكبر كثيرا من مجرد الاعتماد على هذا التفسير!
بعبارة أخرى، هذا التفسير المقارن لارتباك تجربة الإسلام السياسى يساعدنا على الفهم لكنه يظل قاصرا من وجهة نظرى عن الإجابة الكاملة على تساؤلات كثيرة مرتبطة بالتجربة الإسلامية لأن الأخيرة تميزت بسمتين لم تشاركها فيهما أى تجربة سياسية أو فكرية أخرى، السمة الأولى الخاصة بتجربة الإسلام السياسى أنها ادعت فى أكثر من موضع «القدسية»، أى أنها اعتبرت أن مشروعها «إلهى مقدس» لا «وضعى» أو «بشرى» ومن هنا كانت وما زالت تتمتع بقدرة مذهلة على التعبئة والتجنيد والإخلاص للمشروع، أما السمة الثانية فهى مقدار العنف «الذى ارتبط بأذهان كثيرين بالطابع الإسلامى لهذه التجربة».
لقد وضعت العبارة الأخيرة بين علامتى تنصيص متعمدا؛ لأن سمة العنف لها أبعاد كثيرة معقدة ولا يمكن قصرها على تجربة الإسلاميين بأية حال! فمن ناحية تاريخ الفعل السياسى منذ نشأة الحضارات القديمة فإن العنف سمة أصيلة مرتبطة بالفعل السياسى! فتاريخ الحضارات خفوتا وتوهجا وتاريخ الإمبراطوريات توسعا وانحصارا مرتبط بشكل أصيل بالعنف. ومن ناحية تاريخ العنف الحداثى (أى العنف الذى نشأ بعد زيادة التنظيمات والمواثيق الدولية والتى احتكرت فيها الدول القومية حق استخدام العنف)، فإن هذا العنف أيضا لم يقتصر على الإسلاميين ولكنه طال غيرهم من الحركات السياسية القومية واليسارية وغيرها!
بيد أن العنف المرتبط بالإسلاميين كان له ثلاث سمات خاصة، الأولى أنه «عنف مقدس» أى أنه عنف باسم الله فى الأول والأخير فعبارة «الله أكبر» عادة ما تسبق الفعل الإسلامى العنيف مما يجعل الالتفات لها دون غيرها ردة فعل طبيعية، والثانى أنه عنف موجه مباشرة ومهدد لاحتكار الدولة القومية الحديثة لأدوات العنف وهو تهديد مصيرى لأنه لو خسرت الدولة القومية هذا الحق الحصرى انهار كيانها وانهارت شرعيتها فورا وهو ما جعل التركيز على عنف الإسلاميين أكبر وأكثر كثافة مقارنة بعنف غيرها، وثالثا أن العنف الذى ارتبط بالإسلاميين كان فى الكثير من الأحيان موجه لمدنيين عزل سواء لأنه كان عشوائيا فى بعض الأحيان أو لأنه قصد طوائف غير إسلامية بعينها بقصد التطهير والتخلص أو الإخضاع، أو لأنه ثالثا تم توجيهه من مسلمين ضد مسلمين آخرين مما جعل ظاهرة العنف لها خصوصية فى التجربة الإسلامية تستحق الدراسة بذاتها بمعزل عن غيرها من الظواهر!
هنا نتساءل، هل يمكن أن تتخلص تجربة الإسلام السياسى من العنف والارتباك فى المستقبل؟ أعتقد أن هذا ممكن لكن بشروط صعبة للغاية ومعقدة ومعظمها مرتبط بعنصرى الإدراك والوعى السياسى والتاريخى وهو ما سأحاول الاشتباك معه فى المقالة القادمة إذا سمحت الظروف بذلك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved