عصر الأخبار السيئة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 8 أبريل 2020 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

لفت نظرى أحد الأصدقاء إلى أن الصحف عامة ووسائل الإعلام الرقمية بشكل خاص دأبت منذ فترة قصيرة على تجاهل نشر أخبار عن تطورات الحرب وأحوال الناس فى اليمن، ما ينشر عن سوء الأحوال فى اليمن قليل جدا، لاحظ أيضا هذا الصديق انخفاض عدد التقارير والأنباء من الهند عن استمرار تدهور مواقف الحكومة الفيدرالية التى يرأسها الزعيم الهندوسى المتطرف فى قوميته وتدينه نارندرا مودى، ما يصل إلى صديقى بصفة شخصية ولا يصل إلينا كإعلاميين يحكى عن تمزق طائفى يهدد نسيج الأمة الهندية، أهدانى الصديق شريطا يحتوى على تصريح محلى من وزير يهدد بقوانين سوف تُصدر تعتبر المسلمين فى الهند زوارا غير مرغوب فيهم، الوزير يتحدث عن نحو 200 مليون هندى من أصول هندوسية تحولوا إلى الإسلام أو من سلالة مهاجرين وصلوا الهند مع جيوش المغول الذين أقاموا إمبراطورية فيها بقيت تحكم قرونا حتى هيمن البريطانيون على الحياة فى الهند.
نحن أيضا كل فى مجاله لم نعد نسمع أخبارا عن حال مسلمى الصين وبخاصة أهل مقاطعة سنكيانج، انقطعت الأخبار الواردة من هناك أو اتسعت المدد الفاصلة بين خبر وآخر، من ناحية أخرى انخفضت مواظبة أجهزة البث الإعلامى فى مختلف أنحاء العالم عن بث أخبار من شمال غرب سوريا، نسمع من أصدقاء وأقارب هناك وفى موسكو ودمشق وأنقرة أن الأتراك يفعلون هناك ما يحلو لهم أن يفعلوا ولا أحد ينقل ما يفعلون.
خلاصة هذه المقدمة وهدفها فى كلمتين أو ثلاث، الاهتمام العالمى بأخبار الكورونا فرض حجرا على نشر الأخبار السيئة ليس فقط الأخبار التى تخصنا نحن العرب أو أهل الشرق الأوسط وإنما كل العالم، يعنى مثلا لم نعد نقرأ أو نسمع عن المعتاد، وكان مثيرا، فى تغطية أخبار قضية ذوبان الجليد فى القطب الجنوبى وفى شبه جزيرة جرينلاند وآثاره على مكانة قضايا المناخ فى العلاقات الدولية، كان أيضا نموذجا لفيض الأخبار السيئة قبل أن تحل علينا أزمة الكورونا فيتوقف الفيض، أحب أن أؤكد قبل أن أستطرد فى الكتابة، أؤكد على أن ليس بالأمر فى رأيى مؤامرة أو تخطيط مسبق، كل ما فى الأمر هو أن الفيروس احتل الصدارة فى الاهتمام الدولى، بذلك أعطى الفرصة لكل القوى التى تريد الاستفادة من هذا الوضع، أقصد وضعا إعلاميا وربما سياسيا جعل الانتباه يبتعد عن مجال الاهتمامات الجيوبوليتيكية، بمعنى آخر يركز بكل ما أمكن لأصحابه من قدرات على أهداف ومصالح محددة لا تدخل فى تطبيقات نظريات الأمن الدولى والإقليمى أو فى التعددية فى القيادة الدولية وأساليب الحكم داخل الوطن الواحد.
***
نعرف منذ سنوات غير قليلة أن زمن الاعتماد على العمالة التقليدية على وشك أن ينقضى لصالح زمن يعتمد على عمالة الذكاء الاصطناعى وما شابه، الكل يعلم أن أصحاب المال والأعمال يستعدون بدرجات متفاوتة ليوم يعلن فيهم من واتته الشجاعة أو وجد الفرصة وخاف أن تضيع، يعلن نيته الاستغناء عن نسبة أو أخرى من مجمل العمالة التى يوظفها ويدفع أجورها بانتظام، فجأة، وأكرر فجأة، وبينما كنا ملتهين بأنباء مثيرة عن فيروس هو نفسه ملتهى بحصد أرواح من يتجاسرون ويخرجون من بيوتهم، راح أصحاب مؤسسات صحفية أمريكية عديدة يلوحون بعزمهم فصل صحفيين وعاملين فى صحفهم وقنواتهم التلفزيونية ومواقعهم الإعلامية، أو قاموا بفصلهم فعلا، لمحوا الفرصة ولم يدعوها تفلت، الفرصة سمح بها الفيروس ورأى عام مهيأ إعلاميا وسياسيا للانتباه له وحده ولنواياه الفتاكة، الفرصة أيضا متاحة منذ أن بدأت الحكومات تنشر أعدادا ونسب عمالة انضمت إلى البطالة فى سكون وهدوء، لم يكن سرا أنه فى نية من صححوا المسيرة الرأسمالية بعد أزمة 2007 التخلص فى أول فرصة من عمالة غير لازمة، ولم يكن سرا أنه كان فى نية أصحاب الصحف الورقية التقاط أول فرصة لتقليص عدد العاملين بهذه الصحف، والحجج كثيرة ولكن الفرص قليلة، الحجج بقيت كثيرة وجاءت الفرصة.
***
ما يحدث هذه الأيام يستحق أن يوصف بمذبحة الصحافة الأمريكية، لعلها المذبحة الثانية ولكن المعلنة، جرت المذبحة الأولى وكانت معنوية الطابع خلال سنوات حكم الرئيس دونالد ترامب، استطاع الرجل بإصرار وعناد نموذجيين أن يقطع حبل الثقة بين الرأى العام والصحف، أساء إلى سمعتها بكل السبل الممكنة، تجاوز الأعراف وتخطى تقاليد المنصب من أجل أن يهدم صرح ومكانة الصحافة والصحفيين، أقول نجح، نجح بفضل إصراره وعناده وكرهه الدفين لحرية الرأى، وأيضا لأنه وجد ترحيبا مكتوما لدى مالكى الصحف الذين رأوا فى حملة الرئيس تمهيدا لفرصة يتاح فيها لهم تحقيق حلم التخلص من عدد وفير من العاملين فى صحفهم.
اليوم تنشر غالبية الصحف الأمريكية أسماء من يفصلون منها يوميا سرا أو بطرق ملتوية، يتردد بين صحفيين أمريكيين أن مالكى الصحف كانوا بالفعل فى انتظار الفرصة التى سمح بها الاهتمام الحقيقى والمبالغ فيه أحيانا بأخبار الفيروس وانتصاراته، هم يطردون الصحفيين ويغلقون مواقع إعلامية غير عابئين بحقوق نقابية أو سمعة دولية، تنبهت شخصيا إلى هول المذبحة وضخامتها عندما علمت أن مركزا لبحوث الإعلام فى جامعة كولومبيا فى مدينة نيويورك كلف باحثين حصر عدد الصحفيين الذين أُبعدوا من وظائفهم أو أوقف نشر تحقيقاتهم وتقاريرهم بأوامر جزافية من أصحاب العمل منذ بدأ الفيروس هجمته، الهدف كما فهمت هو الاستعداد لفرصة، يتوقعونها فى نيويورك، يتوقف عندها هذا التدهور الذى تسبب فيه الفيروس مدعوما بحكومة متواطئة أو فاقدة سمعة الإدارة الناجحة ومفتقرة تماما إلى الصدق والأمانة.
***
لست متشائما ولست متفائلا إذا قلت إن هذه الفرصة التى يحلم بها المدافعون عن حقوق هؤلاء المفصولين من أعمالهم لن تأتى، أو على الأكثر لن تأتى حسب ما يتصورون، وأهم، فى نظرى، من يتصور أن كثيرا من الأشياء ستعود إلى سابق عهدها وشكلها وسلوكها فى اللحظة التى يقرر فيها الفيروس انسحابه من ساحات الحرب، التى هى العالم بأسره، ينسى هؤلاء أن الضرر الذى خلفه هذا الفيروس لم يكن مجرد خدش، اختار ضحاياه من جميع الطبقات والفئات والأجناس والأديان، بمعنى آخر سجل بحروف من دم سخريته من صراعات البشر السياسية والطبقية، لن يستطيع فقير أو مظلوم أو مقهور أن يدعى أن الفيروس انتقم له من ظلم وقع عليه فالمستشفيات تعج بذوى النفوذ والمال والثروات المكتنزة والسلطة القاهرة مثلما تعج بالفقراء والمقهورين، ولن يستطيع حاكم أن يزعم أنه كان فى هذه الحرب أهلا لها، جاهزا وقادرا، على العكس أكثرهم لم يجدوا ما يقولون ومن تكلم منهم توقف عن الكلام بعد تصريحين أو ثلاثة أو بدا مستحقا للشفقة من جانب خصومه إن استمر أكثر من ذلك، أظن، ولست مخطئا، أن دولا كثيرة كانت محط الاحترام وصاحبة هيبة سوف تخرج من هذه الحرب ناقصة هيبة وفاقدة معظم أرصدة قواها الناعمة، وربما أيضا الصلبة كما ألمحت بصرخة مدوية فضيحة سفينة البحرية الأمريكية التى أصيب بعض طاقمها بعضات من الفيروس شلت حركتها وأبطلت مفعول مدافعها وصواريخها.
***
لن يتوقف طويلا سيل المعلومات السيئة، أتصور أن يوما سيأتى لن نميز فيه بين المعلومة السيئة والمعلومة الطيبة، نعيش، وسوف نعيش لبعض الوقت، فى سياق أزمة الفيروس، أتعمد استخدام كلمة سياق فى وصف ما نعيش، أزمتنا الراهنة سوف تنحسر مخلفة عديد الفرص والبدائل، كلها فى ظنى ضمن السياق وليس من خارجه، سوف تظل تصرفاتنا لفترة لا أحد يقدّر مداها رهن الشروط والقواعد التى فرضتها أزمة الفيروس، رهن السياق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved