العباسية

تميم البرغوثى
تميم البرغوثى

آخر تحديث: الثلاثاء 8 مايو 2012 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

ما يلى هو شهادتى عن مظاهرة العباسية يوم الجمعة الماضى الرابع من مايو لهذا العام.

 

أولا: خرجت إلى المظاهرات لا لأن أحدا دعانى، ولا لتغيير مادة فى دستور، أو إعادة مرشح إلى سباق، بل خرجت لأن أناسا معتصمين قد قتلوا قبل الجمعة بيومين، خرجت لأوجه رسالة لقتلتهم أن القتل ليس وسيلة للاقناع، وأن البلاد لا تحكم بإزهاق الأرواح وفقء العيون، خرجت أقول لهم، إن ذبحتم أناسا لكى تخلوا ميدانا، فاعلموا أن ذلك الميدان سيمتلئ حتى يفيض، خرجت لأننى أعرف أن اجتراءهم على دم سواى اليوم هو تهديد مباشر لدمى، ودم إخوتى وأصدقائى. ببساطة، خرجت كما خرج الناس فى ذلك اليوم، وفى كل يوم منذ بداية هذه الثورة، دفاعا عن النفس. إن الناس لا يعرضون أنفسهم للأذى إلا لدرئه، ولا يلقون الموت باسمين إلا حبا فى الحياة.

 

ثانيا: كانت أعداد المشاركين ضخمة، فيها عشرات الآلاف، إن لم يكونوا قد وصلوا، فى تقديرى إلى مائة ألف، لأن الناس شكلوا جسما ممتدا غير منقطع فى شارع أحمد لطفى السيد من غمرة حتى ميدان العباسية، ثم فى شارع الخليفة المأمون من ميدان العباسية حتى بوابة جامعة عين شمس الرئيسية، وقد صعدت إلى شريط المترو المرتفع الذى يشكل الحد الأيسر لشارع أحمد لطفى السيد لأقدر الأعداد فما أستطعت أن أرى طرفى المظاهرة لضخامتها. ربما كانت هذه أكبر مظاهرة للمصريين أمام مقر الحاكم الأعلى للبلاد فى التاريخ الحديث، حيث لم يتظاهر المصريون أمام مقار حكامهم إلا فى مرات معدودة، حصارهم للقلعة لعزل خورشيد باشا فى 1805 ووقفة أحمد عرابى أمام الخديو توفيق فى قصر عابدين فى 1882، ثم مظاهرات 26  يناير عام 1952 والتى سميت بحريق القاهرة، حيث اتجه عدد من المحتجين إلى قصر الملك فاروق بن فؤاد هاتفين ضده. لذلك فإننى أعتقد أن المجلس العسكرى، ووزارة الداخلية فى حكومته، بل وكافة أجهزته الأمنية، فوجئوا بهذه الأعداد، وفوجئوا بكسر الناس للحاجز النفسى الذى كان يمنعهم من المسير إلى مقر المجلس العسكرى حيث كان. ولو كان المجلس العسكرى فى قصر عابدين أو قصر القبة أو فى السماء لساروا إليه غاضبين لدماء أخوتهم.

 

ثالثا: ما شهدته أن المظاهرة كانت سلمية تماما، ولم أشاهد أى سلاح أو ما يشبه السلاح فى أيدى المتظاهرين، بل شاهدت أٌسرا بكاملها تشارك فى المظاهرة. وصلت إلى نفق العباسية وبداية شارع الخليفة المأمون، وهو شارع طويل ذو مجريين تفصل بينهما جزيرة، نصب المعتصمون خيامهم فى طرفها الخلفى الأقرب لميدان العباسية، أما طرفها الأمامى الأقرب لبوابات حرم جامعة عين شمس ففيه حفريات للمترو مسيجة بألواح كبيرة من الصفيح. وعلى جانبى الشارع تقع مبانى حرم جماعة عين شمس وقد أغلقت بواباتها بالأقفال والسلاسل. بعد حفريات المترو بقليل أقامت قوات الشرطة العسكرية حاجزين من الأسلاك الشائكة يسدان الشارع بالعرض، وقد وقف الجنود خلف الحاجزين فى مواجهة المتظاهرين. الشارع ضيق جدا إذا وضعنا فى الاعتبار أعداد الناس، وزاد من ضيقه وجود هذا السياج المصنوع من الصفيح فى وسطه. إن أول ما طرأ على بالى حين رأيت الحال، هو أن الجنود إذا قرروا الهجوم على الناس فى هذا الشارع المشقوق نصفين فإن أن الناس سيطأ بعضهم على بعض، وأن عدد الضحايا  سيكون كبيرا. كان منظر حرم الجامعة الواسع الخالى وراء قضبان بواباتها مؤلما، هذه البوابات قد يموت الناس دهسا تحتها، والحياة ممكنة واسعة البراح أمامهم، ولكن دونها قفل وقضبان وضعهما موظف جبنه قاتل، وطاعته إجرام. وقد كان الناس يدركون خطورة هذه البوابات المغلقة، وأن نجاتهم ربما تعتمد على فتحها، وقد كانوا قادرين لو أرادوا على فتحها عنوة، ولكن أحدا منهم لم يفعل، كأن الناس فضلوا الحفاظ على الجدران أكثر من حياتهم لكى لا يقال لهم أنتم مخربون.

 

رابعا: قبل أن أصل إلى حاجز الأسلاك الشائكة الأول كان التراشق بالحجارة قد بدأ، ولا أدرى كيف بدأ، ولكن ما تواترت عليه روايات الناس، وما ظهرت صور تدل عليه فيما بعد، هو أن متظاهرا أو اثنين كانوا على سور الحرم الجامعى بجانب الحاجز فسقطوا أو سقط أحدهم فالتقطه الجنود وسحلوه وأوسعوه ضربا فرشقهم بعض المتظاهرين بالحجارة فرماهم الجنود بما عندهم منها ثم بدأت سيارات الجنود المصفحة ترش المتظاهرين بالماء.  وهنا لا بد من التذكير أنه فى حال أى اشتباك بين طرفين، احدهما منظم مسلح  له قيادة والثانى أعزل غير منظم وبلا قيادة،  فإن قيادة المسلح المنظم منهما هى المسئولة عن سلامة الناس ووقف التصعيد. وليس من المسئولية فى شىء سحل العساكر لمواطن مصرى أعزل على مرأى من آلاف المتظاهرين القادمين أصلا احتجاجا على فكرة السحل والضرب والقتل. وما إن بدأ هذا التراشق حتى رأيت الجرحى من المتظاهرين، محمولين على الأيدى أو على الدراجات النارية ودماؤهم تعمم رؤسهم وتغطى أنصاف وجوههم، وأحصيت أحد عشر مصابا فى نصف ساعة أو أقل.

 

خامسا: لقد كانت الأعداد ضخمة إلى الحد الذى يمكَّن الناس من فعل أى شيء يريدونه، لكن الناس اختاروا  السلمية منذ البداية، وهو خيار سياسى عملى بقدر ما هو خيار أخلاقى، فالعدد الكبير يغنى عن العنف. والناس إلى ذلك يدركون أن لا إجماع فى البلاد على بديل للمجلس العسكرى قبل الانتخابات الرئاسية، فقد رزقنا الله بثورة كثورات إيران وروسيا ولم يرزقنا بخمينى أو بلينين، فهم خرجوا للاحتجاج على قتل أخوتهم لا لتعيين رئيس بالقوة. وعليه، فإن سواد الناس الأعظم، رغم قدرتهم على التقدم، قرروا أن لا يفعلوا وشرعوا يبنون متراسا مستخدمين ألواح الصفيح التى تسيج حفريات المترو فى وسط الشارع. إن بناء المتراس فى حد ذاته دليل كافٍ على نوايا المتظاهرين السلمية، وشاهد على أن موقفهم كان دفاعيا لا هجوميا، وأنهم لم يكونوا البادئين بالضرب ولا الراغبين فيه. فإن أضفت إليه عزوفهم عن فتح أبواب الجامعة عنوة رغم حاجتهم إلى ذلك وقدرتهم عليه، عرفت مدى تمسكهم بخيارهم السلمى.

 

سادسا: خوفا من كثرة العدد، طارت فوقنا المروحيات تستطلع. كنت ظننت عندها أن بناء المتراس سيؤدى إلى وقف التراشق بالحجارة، وإلى إيصال رسالة إلى العسكر مفادها الآتي: «أتينا نحتج ونحذر، وعددنا الكبير رسالة إنذار للمستقبل، ولكننا لم نأت للاقتحام والهجوم». وكنت أظن هذه الرسالة ستهدئ من توتر الطرف الآخر، غير أننى كنت مخطئا. فالقيادة الميدانية للجنود ومن ورائها القيادة السياسية لم تشأ ان تسمح للناس بالوقوف آمنين فى شارع الخليفة المأمون، لم يرد الحكام أن يصبح هذا الشارع ميدان تحرير جديد، وأن يملك الثوار ذلك الطرف من المدينة كما ملكوا وسطها، فبدأوا بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع على الناس، ثم خلعوا حواجز الأسلاك الشائكة والمتراس الذى كان الناس يحتمون به وهجموا يضربونهم.

 

سابعا : أفهم ألم المعتقلين وذويهم، وأعرف كم هو باهظ الثمن الذى يدفعونه، إلا أننى موقن أنهم لم يدفعوه هباء. لقد كانت مظاهرة العباسية إنجازا من حيث العدد والمكان غيرَ مسبوق فى تاريخ مصر الحديث على الأقل منذ 1952 إن لم يكن منذ1882 أو حتى 1805. لقد كانت أعداد الناس أكبر بكثير من أعداد من ذهبوا إلى القصر الجمهورى فى 11 فبراير 2011. وقد أوصلت هذه الأعداد رسالتها إلى حكام البلاد وهى أن الشعب المصرى بأعداده هذه، وبجرأته هذه، لن يسمح بتأجيل الانتخابات أو تزويرها أو تأجيلها ولن يقبل أن تصبِّحوه بمذبحة كلما نُصِبَت خيمة فى شارع أو اعتصمت جماعة فى ميدان. ولا بد هنا أن نذكر أن أحداث محمد محمود هى التى ضمنت إجراء الانتخابات البرلمانية: أراد العسكر افتعال اضطراب يتذرعون به ليلغوا الانتخابات، ففاجأتهم الأعداد، فعلموا أنهم لو ألغوها لانضم الإخوان المسلمون وغيرهم من المتضررين إلى تلك الأعداد فتضاعفت، وهو ما لا طاقة لهم به، فأجريت الانتخابات فى موعدها. وهذه المظاهرة كذلك، زادت ضمانة أخرى على أن تُجرى الانتخابات الرئاسية فى موعدها ولا يتلاعب بها. إن ميدان التحرير الذى بقى ثابتا اثناء الثمانية عشر يوما الأولى من هذه الثورة بدأ يتحرك، نعم أنه يدفع الثمن باهظا، ولكنه يتحرك، إلى ماسبيرو جيث اتحاد الإذاعة والتلفزيون، إلى محمد محمود ومنصور حيث وزراة الداخلية، واليوم إلى العباسية ومصر الجديدة حيث وزارة الدفاع. ببساطة إن الشعب يريد السلطة، يريدها كاملة بلا لف ولا دوران، ولا صفقات ولا مواءمات ولا مساومات. انتخابات رئاسية تجرى فى موعدها، تنتقل بعدها السلطة، كل السلطة  من المعينين إلى المنتخبين.

 

●●●

 

وأخيرا، فإن هذه المظاهرة أعادت درجة من الوحدة الوطنية بين الإسلاميين والعلمانيين، تخلص كثير من شباب الفريقين من أوهامه عن قادته، فقد باع القادة من الفريقين ناسهم، وتنصلوا من المظاهرة خوفا من بطش السلطة ورغبة فى مساومتها. كما كشفت هذه الأحداث الإسلاموفوبيا عن بعض النشطاء، وعصبوية وتحزبا وانتحالا للأعذار وقولا للحق يراد به الباطل كثيرا. ولكن من بقوا فى الشارع والميدان تعرف بعضهم على بعض أكثر، وسالت الدماء على جباههم معا، وضمدوها معا، وركضوا إلى النجاة معا، وسيحكمون البلاد، إن شاء الله، معا.

 

أيها الناس لا تخدعنكم حرب خصومكم النفسية عليكم، واذكروا يوم وقعة الجمل، كم من السباب سمعتهم  وأنتم ذاهبون إلى بيوتكم أو عائدون منها إلى الميدان، كم توهمتم أن الناس قد انفضوا من حولكم، وأنكم قلة دونهم، ألم ينصركم الناس بعدها نصرا عزيزا حتى دمعت عيونكم  وعيونهم فرحا؟ لا يغرنكم ما يقوله بعض المارة لمذيعى القنوات الحكومية، فلو نزل هؤلاء المذيعون أنفسهم إلى الشوارع قبل الثورة بيوم لم يعيوا أن يجدوا من يردد على الشاشة نفس الكلام المحبط، فقط ليفاجئهم الطوفان فى الصباح التالى. يا صاحبى، لا تحزن، إن الله معنا، يا صاحبى لا تحزن، إن الناس معنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved