فى وداع بهية

أشرف البربرى
أشرف البربرى

آخر تحديث: الأربعاء 8 مايو 2019 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

لم تكن الفنانة العظيمة محسنة توفيق التى رحلت عن عالمنا قبل أيام قليلة فى حاجة إلى تجسيد شخصية «بهية» بصرختها الشهيرة «لا هانحارب» فى فيلم العصفور للراحل المبدع يوسف شاهين عام 1972 لكى تصبح رمزا لمصر الرافضة للهزيمة فى 5 يونيو 1967 وللقهر والاستبداد اللذين قادا إلى هذه الهزيمة التى لم تتعافَ الأمة العربية من آثارها حتى الآن.

المبدعة محسنة توفيق بوجهها المشحون بحزن المرأة المصرية الحقيقية البسيطة التى لا يتذكرها أحد إلا كلما احتاجوا لمن «تزغرد» فى مؤتمرات التجميل والترويج السياسى، تحولت إلى أيقونة مصرية خالصة، كما تماهت الراحلة العظيمة مع شخصية بهية التى كانت رمزا واضحا لمصر فكرست حياتها فنيا وإنسانيا للدفاع عما تؤمن به من قيم ومبادئ تدور كلها حول الوطن وحقه فى العزة والكرامة والمواطن وحقه فى العيش الكريم والحرية.

فى عام 1972 وبينما كانت مصر تعيش «حالة حرب» رسمية وفعلية وبينما كان جزء عزيز من أرضها محتلا، كان فى مقدور المبدع يوسف شاهين أن يقدم «بهية» ومعها الصحفى الشريف يوسف فتح الباب الذى يتمرد على سلطة والده صاحب النفوذ والمنصب الرفيع والفساد العريض، ومعهما ضابط الشرطة الشاب النزيه المثقف رءوف وشقيقه ناجى ضابط الجيش الواقف على الجبهة، نجلا لواء الشرطة النافذ «إسماعيل» شريك «فؤاد بك فتح الباب» فى الفساد وادعاء الحق الحصرى فى الوطنية وحماية الدولة وأمنها، وعلى الجبهة يقف ناجى.

وربما لأنه كان فى مقدور يوسف شاهين تقديم هذا العمل الفنى الجرىء، ولأنه كان هناك شباب يتظاهر للضغط على السلطة من أجل «حرب الكرامة والتحرير» نجحت مصر فى استعادة عافيتها وإعادة بناء جيشها لتخوض حربها الحتمية ضد إسرائيل وتنتصر عليها فى 6 أكتوبر 1973.

الغريب أنه كما تصدت السلطة فى ذلك الوقت لمظاهرات الشباب المطالب بالحرب، تصدت للفيلم الذى كان يبشر بها وبالنصر والذى حمل أقوى رسائل التحدى فى مواجهة الهزيمة والانكسار فمنعت عرضه لمدة عامين تقريبا، فلا يتم عرضه إلا عام 1974.

المفارقة أن رحيل «بهية» صاحبة الصرخة النبوءة «هانحارب» من أجل استرداد الحق والكرامة والحرية من مغتصبيها فى الخارج والداخل، يستبق الكشف عن الخطة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية وتنصيب إسرائيل سيدا أوحد للمنطقة تحت لافتة «صفقة القرن» التى يتكشف منها كل يوم ما يؤكد حجم المأساة التى تعيشها الدول العربية، والتى يبدو أنها أسوأ بكثير مما عاشته الأمة العربية بعد 5 يونيو 1967 ربما لأنه لم يعد موجودا أو لم يعد مسموحا لأحد ترديد تلك الصرخة الصادقة «هانحارب» حتى لو كان المقصود هذه المرة مجرد التصدى لمحاولات تصفية قضية العرب بكشف الأكاذيب أو حتى بالاحتجاج الصامت.

تمر السنون، وترحل محسنة توفيق، لكن تبقى «بهية» حتى وإن فقدت بعض بهائها، ويبقى معها حقيقة أن الشعب وحده القادر على رفع راية التحدي في مواجهة النكسات، وعلى اختراق جدران الصمت بصوته الذي ينطلق في مواجهة الهزيمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved