رمضان فى قبضة سلوكيات الثقافة

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 8 مايو 2019 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

مهما كان موضوع الحديث فى بلاد العرب فإننا سننتهى إلى معضلة الثقافة العربية الجمعية. ففى تلك الثقافة، وعلى الأخص الشعبى منها، بعض المكونات الفكرية والسلوكية المتخلفة وبعض العادات المشوهة للحياة الفردية والجمعية.

ولذلك فليس بمستغرب أن تنقلب عبادة روحية، شرعها الله لتهذيب النفس وللسمو الروحى، إلى خليط عجيب من التصرفات الفردية والأنشطة المجتمعية، المناقضة للمقاصد الكبرى التى أرادها الخالق من تشريع تلك العبادة، بحيث تضيع الحكمة من فرض تلك العبادة وتنقلب إلى ممارسات شكلية.

وهكذا ما إن يحل شهر رمضان فى كل عام حتى نقرأ ونسمع أشكالا من النقد بشأن تشيؤ شهر الصوم وتحذيرات ونصائح بشأن ممارسات خاطئة أثناء شهر رمضان. لكن مع ذلك تبقى سطوة وهيمنة الثقافة العربية الجمعية ممسكة بخناق هذه العبادة عبر السنين والقرون. سنعرض بعضا من أمثلة الواقع الرمضانى وذلك من أجل توضيح ما نعنى.

أولا، هناك عادة التبذير المتجذرة فى الثقافة العربية التى تقلب وجبة الإفطار الرمضانية إلى وجبة تخمة وإفراط مستمر فى الأكل والشراب طيلة الليل، بحيث تنتفى الحكمة من وراء الصيام الهادفة إلى التذكير بمحنة جوع الفقراء طيلة العام وإلى الإقناع بأهمية التوزيع العادل لثروة المجتمعات حتى لا تتعايش ظاهرتا غنى التخمة وفقر الفاقة فى نفس المجتمع، بل وفى نفس الحى.

ولا يقف الأمر عند تبذير الفرد أو العائلة إذ إن الغالبية من الدول العربية والإسلامية يزداد مقدار وثمن استيرادها للمواد الغذائية والمكسرات لشهر رمضان إلى أكثر من ضعف ما تستورده لبقية أشهر السنة، الأمر الذى يؤدى إلى عجز فى الميزانيات العامة وإلى ارتفاع فى نسبة الدين العام لتلك المجتمعات، ما سيؤدى فى النهاية إلى ازدياد الفقر، وبالتالى إلى ظاهرة الجوع.

ثانيا، أما ما يتبع الإفطار، وإلى ساعات قريبة من الفجر، من برامج تليفزيونية يمتلئ بعضها بحركات وتعبيرات الجسد المثيرة لكل أنواع الشهوانية، وبالرقصات الخليعة، وبالأغانى المائعة المجونية، فإنه غير مستغرب وجودها وتقبلها وإدمانها فى ثقافة جمعية تعودت أن تتعايش فيها عبر القرون الثنائيات المتضادات والمتناقضات من الأفكار والسلوكيات والعقائد حتى ولو كانت فى حالة صراع دائم فيما بينها.

ولذلك فشروط اكتمال عبادة الصوم عن الأكل والشراب مثل ضرورة الابتعاد عن الفسوق والشهوات الجسدية والذهنية وعن الرفث فى الكلام من فحش وجدال وقبح يمكن أن تتعايش جنبا إلى جنب مع كل ما يعرضه التليفزيون من برامج تتعارض قصصها وخطاباتها مع تلك الشروط، ويتقبلها الصائمون بطيب خاطر من خلال فهمهم الغريب من أن الحسنات يذهبن السيئات، كذا بإطلاق ودون شروط.

ثالثا، أما الجدل العقيم فيما بين مؤسسات ورجال الدين والمذاهب بشأن توقيت بداية شهر الصوم والتفسيرات التى لا تستقر على حال حول معنى كلمة «رؤية الهلال» فى النصوص وتفسيراتها السلفية، وكذلك الجدل بشأن توقيت بداية يوم الصوم عند الفجر.. فإنه جدل ينم عن الحذر والتردد الدائم فى الثقافة العربية بشأن التعايش مع منجزات العلوم والتكنولوجيا.

وإلا، فهل هناك حاجة لمثل ذلك الجدل فى عصر وصلت فيه دقة العلوم والتكنولوجيا إلى الحديث عن حسابات وفروقات فى توقيت الزمن تصل فى صغرها إلى واحد من المليون من مدة الدقيقة أو الثانية الواحدة؟ مرة أخرى، نحن أمام ثقافة لم تحسم أمرها بشأن ما هو غيبى رمزى وما هو علمى واقعى، ما كان ممكنا فى عصر سابق وما هو ممكن فى العصر الذى نعيش.

وبالطبع سندخل فى نفس الجدل الممل عندما سنتحدث قريبا عن توقيت نهاية صوم شهر رمضان وبداية اليوم الأول من عيد الفطر، بل وعن توقيت بداية كل شهر مرتبط برمزية دينية أو مذهبية عند البعض.

رابعا، ولأن سهرات رمضان ارتبطت بعادات وسلوكيات كثيرة تجعلها تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل، فقد انعكس تأثير السهر الطويل على قدرة الصائم فى العمل المنتج والنشاط فى صبيحة اليوم التالى.

فالصائم يأتى لعمله وهو منهك نعسان متثائب، فلا يجيده ولا ينهيه. وهذا أيضا يعتبره الصائم شيئا طبيعيا ومبررا، ويلقى باللوم على جوع وعطش الصوم، بينما يقع اللوم على ثقافة لا تحترم بصرامة التزامات وواجبات العمل ومستوجبات الانتظام المطلوب لإتمام النشاطات الإنسانية على أكمل صورة ممكنة.

فى كتاب «المجتمع العربى المعاصر» للدكتور حليم بركات يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أن ما تتميز به الثقافة العربية هو التنوع والصراع بين اتجاهات قيمية متناقضة، وليس التمسك بأى اتجاه لذاته. وهذا يجعلها فى حالة تناقض وصراع وصيرورة. ويخلص إلى أن الثقافة السائدة، وهى فى أغلبها ثقافة الجماهير الشعبية البسيطة، تميل إلى قيم الجبرية والماضوية والاتباع والشكلية والامتثال القسرى والانغلاق واحترام السلطة.

وكجزء من حل ذلك الإشكال ينادى بالتحرر من التقاليد والعمل بدلا من تنمية قدرات الخلق والابتكار.

للتخلص من الثنائيات الرمضانية المتناقضة، ولإعادة هذه العبادة إلى ألقها الروحى والتزاماتها الإنسانية سنحتاج إلى مراجعة عميقة متجاوزة لبعض ما علق بالثقافة العربية الجمعية عبر القرون من أفكار وعقائد وسلوكيات وعادات تساهم دوما فى تشوية أو إعاقة أو منع تجديد كل الأنشطة الحياتية فى بلاد العرب، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم دينية.

عود على بدء: إنها ثقافة تحتاج إلى أن تثور على نفسها لكى تتجدد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved