رمضان ولا أحلى!

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 8 مايو 2019 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

فانوس، زينة، أضواء، كنافة، العائلة، صوت الأذان، مسلسلات، صلاة التراويح، ساعات بعد الظهر الطويلة وكأنها لن تمضى، حبتا تمر فى طبق، ساعة صمت بعد الإفطار، زيارات بعد العشاء، الجدة تلبس غطاء الصلاة حتى ساعة متأخرة لأنها تتناوب على الصلاة والدعاء ومجالسة أهل البيت ثم مشاهدة لحظات من مسلسل قبل أن تعاود الصلاة.

***
ها أنا أعدد ما يعنيه لى شهر رمضان، شهر أصر على اتباع طقوسه، أريد فيه جدة وعصير قمر الدين مع أن جدتى رحلت وأنا لا أحب قمر الدين. أريد زينة وسكونا فى فترة بعد الظهر. أتذكر شهر رمضان حين أتى علينا فى منتصف الصيف فى طفولتى، ها قد دارت الأيام فعاد وأتى فى الصيف وسوف يبتعد حتى أيام الشتاء القصيرة بعد بضع سنوات.

***
لا شهر يثير فى داخلى شجنا كهذا الشهر، ولا شهر أحب فيه لقاء الأصدقاء حول مائدة كهذا الشهر. أسمع كثيرا أن لا داعى لما بات يسمى «أزمة قبل رمضان» بمعنى أزمات السير الخانقة التى تسبق شهر الصيام، وأن لا داعى لاكتساح الأسواق تحضيرا له لا سيما وأننا، أى فى الحياة الحديثة، بتنا قادرين على الحصول على المواد طوال أيام السنة. أظن أن أزمة ما قبل رمضان جزء منه، هناك بهجة فى التحضير، بغض النظر عما نحضره، هناك فرحة فى المشى بين الزينة والوقوف عند مدخل يعلق سكان عمارته الأضواء الصغيرة والفانوس فوقه.

***
فى رمضان أعيش طفولتى كل يوم، كأنها كتاب فتحته على صفحة ممنوع على أن أطويها طوال الشهر. عمرى عشر سنوات وألقى بنفسى على سريرى بعد المدرسة بانتظار كلمتى «الله أكبر». أسمع أمى تتحرك فى المنزل، نشاهد جميعنا مسلسل العام على القناة الرسمية، هذا عصر ما قبل الفضائيات وقبل يوتيوب، هو عصر أشاهد فيه المسلسل دون أن أفهم معظمه حتى يحين موعد الفوازير. فى تلك الصفحة طفلة عادت من المدرسة فى يوم حار إلى بيت دافئ فيه جدة تزور ابنتها، أى والدتى، أثناء الشهر، تلبس غطاء أبيض على رأسها ويبقى المصحف مفتوحا قرب كرسيها طوال الشهر.

***
السحور هو الآخر طقس ساحر رغم أننى أستصعبه حتى أننى أفضل النوم دونه على الاستيقاظ من أجله. أن نقوم فى ساعات الليل الأخيرة للاجتماع حول وجبة بات ترفا فى العائلات الحديثة التى يصعب كثيرا أن يجتمع أفرادها حتى مرة واحدة فى اليوم. ربما يستحق منى ذلك جهدا إضافيا أجمع فيه أطفالى حولى فى عز الليل. ها هم يدخلون قطعة خبز فى أفواههم قبل أن يعودوا إلى الفراش وكأنهم لم يتركوه.

***
أما أنا، فمنذ اليوم الأول لشهر الصيام أفكر فى طعمة واحدة معينة: خليط زيت الزيتون والزعتر على رغيف حار. أذكر يوم كنت فى زيارة إلى أحد مخيمات اللاجئين فعرض على زميل أن نشترى منقوشة وقت الغذاء، سألته إن كان من اللائق أن نأكل أثناء تواجدنا فى المخيم فابتسم قائلا إن منقوشة الزعتر هى طعام الفقراء. طعام الفقراء هذا كما وصفه زميلى هو بالنسبة لى من أغنى الأطعمة، وهل من طعام أثمن على الروح من الخبز؟ حتى أننى أفضل كلمة «عيش» المصرية لقدرتها على أن تعطى الخبز حقه. أما زيت الزيتون، ماء الذهب الذى يحل بنظرى كل المشاكل، أعتقد أنه من أغلى ما أملك فى مطبخى. والزعتر؟ لا رائحة كرائحته، ولا عودة إلى الطفولة كتلك التى أعودها على متن الزعتر. لذا فأنا أدخل إلى المطبخ بعد الإفطار بهدوء، وأقطع لقمة من الخبز أغمسها بالزيت ثم بالزعتر فأعود طفلة تمسك بشطيرة لفتها لها أمها فى الصباح لتأكلها على متن حافلة المدرسة.

***
شهر رمضان يربك نضجى ويفرح طفولتى فتختلط فيه صور كثيرة عن أوقات سعيدة مضت. هو شهر للكبار والصغار لا يكتمل إلا بوجود أجداد فى الصورة. هو شهر يجب أن تجتمع فيه الأجيال حول المائدة ويجب أن تسرد فيه قصص عن طفولة الأجيال الأكبر سنا فنسمع عن المسحر وعن الحارات القديمة وعن عادات ربما فقدنا منها الكثير حتى لو ما زلنا نحلف بتمسكنا ببعضها.

***
هذا الشجن بعيد كل البعد عن أحاديث ثقافية وأحيانا مركبة عن الصيام وحرية العبادة ولا يحمل أى حكم على من يصوم ومن لا يصوم. هو شجن يحمل بين طياته صورا لا تنتهى عن أشهر رمضان كثيرة اختزلتها بطفلة تعود من المدرسة عطشى فتمارس طقوسا منها دينية ومنها اجتماعية أو ترفيهية بانتظار لحظة السماح لها بالإفطار. هو شجن أحرص أن أنقله لأطفالى لأننى أحب أن أكون يوما بينهم وهم يحتفون به كما احتفت به أمى ومن قبلها جدتى. خيط سحرى لا عقلانى أريده أن يستمر فى عائلتى فيتذكر أولادى هذه السنوات ويبتسمون حين تظهر لهم صورتهم وهم مستلقون على السرير بعد المدرسة فى محاولة للسباق مع زمن يبدو لهم اليوم، وهم صائمون أنه توقف. ربما يشمون هم أيضا رائحة الزعتر، فهذا أيضا شىء أحرص على أن يحبوه كما أحبه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved