وداعًا أيتها السينما

محمود قاسم
محمود قاسم

آخر تحديث: الجمعة 8 مايو 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

لقد تحملنا رحيل جميع الأعزاء فى حياتنا، لكن ترى هل يأتى اليوم ونتبادل عبارات العزاء فى السينما، وتعيش بدونها ونذهب بجميع أرواحنا وأفئدتنا إلى البديل الشرس الجذاب، التلفزيون؟

للأسف فإن جميع المؤشرات تؤكد ذلك، وقد مرت عشر سنوات كاملة على بدء الزحف الكبير لأهل السينما نحو الدراما التلفزيونية، وتفرغهم الكامل لها، وكان المؤشر الأكبر أن النجم عادل إمام قال وداعا للسينما بعد فيلمه الأخير بوبوس، وتفرغ للدراما الرمضانية، وكان سببا لانتعاشها ورفع أسعار نجومها بشكل سنوى. تجلى هذا الانتعاش فى زيادة عدد المسلسلات المعروضة سنويا فى شهر رمضان، السوق الكبرى لهذه البضاعة الرائجة، وقد ارتبط رواج الدراما التلفزيونية فى تلك السنوات بظهور عدد ضخم من قنوات البث بجميع أنواعها، وهى تقوم بالتخديم على الدراما بالاعلانات والانتاج والتوزيع، وايضا توسيع أنشطة الانتاج، فى الوقت الذى تعرضت فيه السينما كدور عرض للمزيد من المحن منها الاغلاق التام فى اثناء عام 2011 وما بعدها، وليس مجالنا هنا الحديث عن المسيرة، ولكن باعتبار أننا نتكلم فى مجال اليوتيوب فلا شك أن هذه الامكانية فتحت أوسع المجالات للناس لمشاهدة الدراما كلها كاملة على اليوتيوب بعد دقائق قليلة من بثها، خالصة من الاعلانات، ويمكنك مشاهدة العمل الواحد فى جلسة واحدة ، ووسط أصعب الظروف فيمكنك دفع اشتراك رمزى كى تشاهد، وتستمتع اكثر ما تدفع، وبالتالى فقد دخلنا منذ سنوات فى ظاهرة جديدة تماما من الحصول على متعة المشاهدة تعالوا أحدثكم عن ماذا شاهدت فى النصف الأول من شهر رمضان الحالى، فباعتبارى مشاهدا قديما، فإننى ألعن اليوم الأول الذى انحشر فيه اعلان تجارى ايا كان شكله، داخل عمل فني، فأخرجك من الاندماج وأفسد عليك متعة التواصل، واضاع هيبة العمل، فما بالك الآن وعشرات الأعمال التى المفروض أنها فنية يتم التحرش الشديد بها من خلال كل هذه الاعلانات مهما كانت جاذبيتها، وما على المتفرج سوى الامتثال لما هو موجود فيه، فالاعلانات هى فيروسات لا تعرف سوى مغازلة المشاهد للاقتناع بالبضائع أو الخدمات المعلن عنها، واذا كانت الاعلانات زحفت على اليوتيوب بقوة فى السنوات الأخيرة فإنك يمكن ان تحصل على خدمة مشاهدة المسلسلات بدون مقاطعة، أما الامر الثانى الخاص بالمشاهدة والاندماج فإن آلية الفرجة الحالية تجبرك على المشاهدة الكاملة للنص الدرامى، أى ما إن تنتهى الحلقة حتى تشاهد النص التالى وما بعده وفى اليوم الواحد قد تتابع أكثر من عشرين مسلسلا، بإعلاناتهم، أما فى اليوتيوب فالأمر إنسانى، حيث يمكنك من الخامس فى الشهر مشاهدة حلقات متتابعة من نفس العمل فتندمج، ولا تتشتت، وتستعيد إنسانيتك.

وهذا يجعلنا نتكلم عن أبرز صفة فى مسلسلاتنا، فالمخيلة العربية بالغة الفقر، ذات حيز ضيق للغاية، المؤلفون يستقون موضوعاتهم من صفحات الحوادث فى جرائدنا المحلية، جرائم فساد، وسرقات وتهريب وادمان، وفى الكثير من الأحيان زواج وطلاق وخيانات ومؤامرات، ما يجعلك لا تشعر أن هناك تباينا بين ما تراه من مسلسل وآخر.. الأماكن التى يعيش فيها أبطال الأعمال هم من أصحاب الثروات الكبرى، التى تنامت بسرعة، يسكنون المنتجعات، ويمتلكون البنايات الفخمة الواسعة، التى لا تتناسب مع وظائفهم ولا بد أنهم دبروا أحوالهم بأشكال ملتوية، فأنا واحد من المواطنين، وأعرف كم يمنحوننا من مرتبات ودخول، وفى مسلسل «ونحب تانى ليه» يوجد مخرج اعلانات يقيم وحده فى قصر بالغ الفخامة يدعو إلى التساؤل: هل المهنة تأتى بكل هذه المقدرات؟

فى مسلسلات هذا العام، وفى الحلقة الأولى لمسلسلين نرى البطل يذهب إلى أفخم محل لبيع المجوهرات وهو محل فتح الله لشراء قطع بأرقام عالية، وترى صاحب المحل الحقيقى يؤدى دوره كبائع، ما يعكس ما يتمتع به أبطال المسلسلات من مقدرة عالية، إن كانوا نصابين مثل مسلسل «ب 100 وش»، كما حدث ذلك فى مسلسل «ليالينا80».

هى إذن حكايات من أصبحوا قادرين، والقادرون فى مجتمعاتنا كانوا يقضون سنوات للعمل فى بلاد البترول، لكن مثل هذه الشخصيات أصبحت اقل عددا مثل المهندس العائد من دبى فى «ليالينا 80» إذن فالمساكن البالغة الفخامة للأغنياء رجال الأعمال، كل الهم هو زيادة الثروات، وكل منهم لديه بنايات فخمة وديكورات حديثة وعدد كبير من السيارات أفخم طراز، أما الزواج والطلاق والنساء الجميلات الطامعات فلا حدود لهن، الأموال هى التى تتكلم، وبالتالى فإنهم لا يعرفون لغة المعاناة التى أعرفها انا شخصيا وانا فى هذه السن بتدبير جرعات أدوية السكرى التى نحتاجها طيلة العمر بلا توقف، لم أسمع فى مسلسل واحد منذ عدة سنوات شخصا منهم يعانى من الدخول إلى مستشفى، فكل شىء مدفوع بسهولة، ولم يحدث حجز مريض فى أحد المستشفيات مثلما كان يحدث لأبطال افلام التسعينيات.

لم يعد هناك المؤلف الواحد للمسلسل بل الورش، وبالتالى فالأخطاء كثيرة، اخطاء فى الأمور البسيطة وبالنسبة للناقد فسوف يجد نفسه يعدد الأخطاء، وهذا ليس دوره، بدلا من تحليل العمل الفنى للمشاهد.

انتهى بشكل ملحوظ لجوء الدراما للمصادر الأدبية إلى الروايا ت المصرية وبدأ عصر الورش، بل حدث ما هو أسوأ، فمسلسل «الفتوة» استوحى الاسم من فيلم صلاح أبوسيف، ولجأ إلى عالم رواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ دون أن يذكر اسمه بالمرة واستوحى المكان والعصر والشخصيات، خاصة عائلة الجبالى التى توارثت الفتونة طوال خمسة قرون.

كما أن مسألة ورش الكتابة أعطتنا نصوصا متشابهة فى الأخطاء، فهناك أم تبلغ زوجها العائد من الخارج لتوه أن ابنته ركبت السيارة الجديدة التى اشترتها لها، وفى مشهد لاحق لا يوجد ما يدل أن للفتاة سيارة، وتركب تاكسى مع سائق، وتكون سببا فى حادث جسيم، وأغلب القصص كما ذكرنا مأخوذة من صفحات الحوادث، وباعتبار أن هناك من يرتكبون الجرائم فاننا دوما امام ضباط ومحامين ومتهمين من أبناء طبقات قادرة والأماكن هى قاعات التحقيق.

امتلأت مسلسلات هذا العام بفنانين وفنانات يمثلون حالات بارزة فى التقدم فى العمر، وعلى رأسهم مسلسل «سكر زيادة» حيت إن أعمار الممثلات الأربع هو 315 سنة، اما لو جمعت أعمار من تجاوزوا الستين فى كل الأعمال فقد يصل الرقم إلى مليون سنة ومنهم عادل امام، وانعام سالوسة، ومحمود قابيل، وسوسن بدر، ويسرا، وعبدالرحمن أبوزهرة، وأحمد خليل، وبالتالى فألف تحية للنجوم الشباب حتى وان كانوا أقل موهبة فلا شك أنهم ينتظرون الفرص القادمة.

عادل امام حالة شغف شعبية، الناس تحب وجوده، وتنتظره، وقد خانه ذكاؤه مرتين، الأولى عندما كرر نفسه، وظهر المضحكون الجدد ليضعوه على الهامش، وما لبث أن انتفض، وعمل فى افلام ومسلسلات مقبولة قبل أن يقع فى دائرة التكرار، والاستعانة بكاتب واحد والمخرج نفسه ابنه، الذى هو أيضا منتج مسلسل «فالانتينو». وهذا الأخير لم يعد بقادر أن يعمل خارح دائرة أبيه، وفى الغالب كانت الصورة المكررة مثيرة للملل، وهو غير قادر على الاستعانة بخبراء تجميل مثلما فعلت الفنانات.

لأننا أمام جهة واحدة منتجة وفكر واحد، فمن الطبيعى جدا تكرار الموضوعات والعناوين والأماكن ومثلما أشرنا فإن هناك مشهد الجواهرجى المتكرر، فإن هناك مشهد امرأة فقدت الذاكرة منذ الحلقة الأولى في «لعبة النسيان» و«فرصة ثانية»، كما ان هناك حادث سيارة يذهب ببطلة المسلسل إلى المستشفى فى «فرصة ثانية» و«ليالينا80»، وبالاضافة إلى تشابه العناوين فى «ونحب تانى ليه» مع «فرصة ثانية»، إلى تشابه الحدوتة، فهناك أشخاص يبدأون علاقات عاطفية من جديد عقب انفصالهم عن التجربة الأولى، وهو أمر موجود فى مسلسلات كثيرة.

وطالما ان هناك حوادث سيارات فلابد أن تكون هناك مستشفيات واطباء، وغرف رعاية وتمريض ومرض وعاهات مستديمة.

كاملة أبوزكرى أرادت العودة إلى عالم فيلمها الأول «سنة أولى نصب» باعتبار أن هذا النوع من الأعمال يجتمع فيه الذكاء والحب، فالنصاب هو اذكى الاشخاص على الاطلاق، وعندما يقع فى الحب قد يخونه الذكاء، ويتحول إلى شخص مختلف تماما، وفى مسلسل «ب 100 وش»، نحن أمام اثنين من النصابين يقوم كل منهما بالتلاعب على الآخر من أجل صفقة مالية حتى يقعا فى الحب، ويتعاونا معا بعد أن كانا مثل القط والفأر.

المستشفى مكان يتجدد وجوده كما أشرنا، وفى الحلقة الأولى من مسلسل «جمع سالم» تردد سيد أعمال أن المستشفيات الاستثمارية هى المشاريع المضمونة فى الأرباح العالية، والبطلة هنا تعمل طبيبة فى احدى تلك المستشفيات، ومن الواضح أن المؤسسة التى أنتجت المسلسلات تناصر تماما هذه المشاريع، فالنزلاء من اعلى الطبقات الاجتماعية، يدفعون بلا أى مراجعة.

مثلما أشرنا فإن المصدر الخام لأغلب هذه القصص هى صفحات الحوادث فى الصحف، وبالتالى فإن جرائم اليوم يعاد تجسيدها فى المسلسلات، والكثير من الشخصيات يعملون فى تهريب المخدراتخ أو النصبخ والسرقات الكبرى، مثل الشخصية التى يجسدها محمود حميدة فى «لما كما صغيرين»، وهو فى الاساس رجل اعمال يعمل على جانب آخر فى التهريب، وأيضا في «شاهد عيان».

تكون اكثر عبارة موجودة فى كل هذه المسلسلات هي «أحبك» التى يتبادلها العشاق، مهما كانت أعمارهم خاصة الشباب، وفى كل مسلسل أكثر من قصص حب، وتأتى عبارت البوح من ناحية مرتبطة بالآمال، والغيرة أحيانا أو دائما الانفصال «والغريب أو الطبيعي أنها قصص مغموسة بالثروات، والفخامة، فأغلب العشاق يعملون فى شركات استثمار لديهم مكانة قيادية ويركبون سيارات أحدث طراز ويترددون على افخم المطاعم، وافضل عبارة قبل «أحبك» هى الدعوة على العشاء أو الغداء، والهواتف المحمولة هى سيدة المواقف، تنقل عبارة «احبك» التى رغم انها تمثيل ومتكررة فإنها تبدو أجمل ما يردده الإنسان فى كل حياته، لذا تكررت هذا الشهر مرات من الصعب حصرها فى كل المسلسلات تقريبا.

لاشك أن فى مشلعجى «الاختيار» وايضا «حارس القدس» حول المطران كابوتشى حالة من الشجن الوطنى المنشود، ولكن هذه الجرعة وحدها لاتكفي، فمن المهم أن يشاهد الناس كيف عاش رواد التنوير المعاصرون، واذا كان التلفزيون ايام قطاع الانتاج قدم لنا أعمالا عن الدكتور طه حسين، وعباس العقاد، وعبدالله النديم، وفيما بعد رأينا اعمالا عن على مبارك وقاسم أمين، فإن أدباء ومفكرين يستحقون أن يتعرف الناس على مسيرتهم، وابداعاتهم، وأفكارهم وقصصهم الإنسانية، وعلى رأسهم نجيب محفوظ، واحمد لطفى السيد، وتوفيق الحكيم، وامينة السعي، ويوسف وهبي، واحسان عبدالقدوس، وفاطمة اليوسف، وما أطول الأسماء فى القائمة.

ملحوظة: شاهدت ما قدر لى من المسلسلات وحلقاتها على اليوتيوب بدون اعلانات، لا تسألنى، لعلها المصادفة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved