الساحة الأدبية السعودية.. ميدان بلا حميدان

طارق فريد زيدان
طارق فريد زيدان

آخر تحديث: السبت 8 مايو 2021 - 7:25 م بتوقيت القاهرة


قبل مائة عام خرجت شخصيات أدبية عربية كبيرة بأعمال تعتبر من عيون وأركان الأدب العربى. سلك هؤلاء نهجا مختلفا عن النهج المتبع فى العلوم الإنسانية وقتذاك. هم أدباء دخلوا الساحة الأدبية بقوة مؤلفاتهم وأبحاثهم التى لم تخضع للأدوات التقليدية فى الدراسات الأدبية، ليعلنوا من خلال نتاجهم بداية الصراع بين فريقى التقليد والحداثة فى العالم العربى.
تجسد هذا الصراع فى موقعة كتاب «فى الشعر الجاهلى» للأديب المصرى الكبير طه حسين (صدر ١٩٢٦م). حينذاك، لم تكن الساحة هادئة تماما بل سبقها قبل حوالى العقدين من الزمن اشتباك بين الأديب طه حسين ومؤسسة الأزهر الشريف، ما أدى إلى حرمان طه حسين من الشهادة العليا التى على إثرها طرد من جامعة الأزهر (١٩٠٨م).
غادر طه حسين الأزهر غاضبا ومغضوبا عليه إلى الجامعة المصرية الأهلية التى حصل منها على شهادة الدكتوراه. ثم سافر بعدها إلى فرنسا عام ١٩١٤م. المفارقة هى أن شهادة الدكتوراه التى أعدها عن أبى العلاء المعرى أحدثت ضجة كبيرة ونوقشت تحت قبة البرلمان المصرى، حيث طالب أحد النواب بحرمان الكاتب من حقوقه الفكرية. لكن الزعيم المصرى سعد زغلول أقنع النائب بالعدول عن مطلبه. ويدعى أخصام طه حسين أنه ظل يلبس العمامة الأزهرية حتى صعد إلى السفينة المتجهة إلى بلاد النور باريس ثم رمى بعمامته فى عرض البحر!
عندما عين وزيرا للمعارف المصرية، دُعى لحضور حفل افتتاح معرض فنى تشكيلى لأحد الفنانين المصريين الجدد. فى المعرض، سأله أحد الصحفيين «كيف لطه حسين الكفيف أن يفتتح معرضا تشكيليا؟»، فأجابه طه حسين «أنا هنا بصفتى كوزير وليس كأعمى»!
لا تنتهى المفارقة عند هذا الحد. بل اتصلت بالساحة الفنية المصرية شظايا الصراع الأدبى. فقد أنكر على السيدة أم كلثوم بعض كبار المثقفين المصريين بأن أداءها فى أغنية «الأطلال» يعتبر تغريدا خارج السرب. وجدوا فى كلام الأغنية تحديا للمنظومة الكلاسيكية الشعرية. فخرجت أصوات تنتقد هذا اللون من الكلام الدخيل على الشعر العربى محذرين من انتشاره فى الساحة الأدبية وتقبلها. نقد تجريحى طال شخص الشاعر إبراهيم ناجى كاتب كلمات الأغنية وهو المنتمى إلى مدرسة أبولو المعروفة بنهجها الحداثى. وقد انتقد طه حسين الشاعر وشعره على العموم، واصفا إياه بأنه «شعر الخلاء» يضربه البرد فيمرض!
***
استمر الصراع بين الفريقين التقليدى والحداثى طيلة القرن الماضى منسحبا على كامل الساحة العربية. لقبت تلك الفترة من بدايات القرن العشرين بالعهد الذهبى للساحة الأدبية العربية، غير أن الصراع فى الجزيرة العربية اتخذ عنوانا ملائما لشخصيتها الجغرافية بين تيارين محافظ وليبرالى، لكن مضمونه كان ذاته، أى الصراع بين النهجين التقليدى والحداثى. ما لبث أن كسب هذا الصراع زخما إضافيا بفعل فائض المداخيل النفطية. تمظهر هذا الفائض بفورة فكرية قادها شاب سعودى متأثرا بأفكار عصرية ومتسلحا بأدوات أدبية حديثة. خاض عبدالله الغذامى تجربة التعلم فى الخارج الغربى ليخوض بعد انتهاء التعليم غمار الساحة الأدبية السعودية بما لا يتوافق مع النهج السائد حينها. هنا لا يمكن القفز من فوق أعمال عدة لعبدالله القصيمى وعبدالرحمن منيف صنفت فى خانة النهج الحداثى.
غير أن الشاب الغذامى قرر أن يغرف من تجربة أساتذة كبار ممن سبقوه فى المملكة مثل الأستاذ عبدالله عبدالجبار والأستاذ حمزة شحاتة. لم يرمِ أبو غادة بعمامته فى عرض البحر وهو الذى قد حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة الإمام محمد بن سعود فى مدينة الرياض. فانتشر نتاجه فى ثلاثة أصقاع الساحة الأدبية السعودية: الجامعة والدولة والصحافة. وفى خضم تلك المرحلة تسارعت وتيرة المفارقات الأدبية مع حجم التناقضات التنموية. فاتسعت الساحة أكثر وأكثر لينغمس الغذامى فيها حتى أخمص قدميه.
فى ثمانينيات القرن الماضى، احتل الدكتور عبدالله الغذامى مقدمة الساحة. وجد نفسه فى قلب المعركة بعد أن سحر هذا الشاب المثقف والمجتهد النخب الأدبية السعودية حين قدم كتابه «الخطيئة والتكفير». هذا الاجتهاد الأكاديمى فى نظريات البنيوية وضع الغذامى فى عين العاصفة معرضا نفسه للكثير من اللغط والسجال. فأصبحت موقعة «الخطيئة والتكفير» خطا زمنيا فاصلا فى سيرة الساحة الأدبية السعودية. ما قبلها ليس كما بعدها. يومها بدا التيار التقليدى متقدما بالنقاط على منافسه الليبرالى. إلا أنه بعد عقود طويلة تحوّل الشاب الغذامى إلى شيخ من شيوخ الساحة الأدبية فى المملكة. المفارقة هى أن الدكتور عبدالله الغذامى أعلن لاحقا «موت النقد الأدبي»!
استمرت الممارسة الإقصائية ذاتها فى الساحة بين الفريقين. نجد آثار شظاياها تبلغ سعيد السريحى بعد حرمانه شهادة الدكتوراه، فظل المؤرخ والناقد والأديب بلا لقب الدكتور، برغم أهليته لها بشهادة العصر لا المعاصرين، مثله مثل غيره من فرسان الساحة الأدبية.

أين هذا الصراع فى الساحة الأدبية اليوم؟
من يتابع الساحة الأدبية السعودية، اليوم، لن يجد صراعات الأدباء التى هى علة وجود المثقف. أين التيارات الفكرية المتلاطمة؟ أصبحت الساحة شواطئ بلا أمواج ولا حركة. لا أجد حوارا أو حتى خناقة بين أديب وآخر. لا نجد اليوم نقدا أدبيا لنص كتب أو مقالة نشرت. الساحة كأنها ميدان مفرغ من كل شيء. ينطبق عليها المثل العربى الشهير معدلا «ميدان بلا حميدان».
لم تكن الساحة يوما ساكنة تحت تأثير الركود. للتذكير، قبل عقود مضت استعر صراع صاخب زلزل الساحة الأدبية السعودية بين الأستاذين محمد حسن عواد وحمزة شحاتة. صراع أدبى بلغ حد الشتائم والسباب. أيضا كان هناك تنافس كبير بين صحيفتى البلاد وعكاظ. نلاحظه من خلال سعى رئيسى تحريرهما إلى استقطاب السجال الأدبى فى صفحات الجريدتين الورقيتين.
باستثناء الدكتور حسين بافقيه الذى آثر عدم النشر والانكفاء، يقتصر الحوار بين الأدباء فى السعودية على التهانى والتعازى وتبادل الذكريات القديمة.
إذا اتفقنا أن الساحة الأدبية لا تزال موجودة، أين هم المتصارعون على حلبتها؟ ولماذا انكفأوا؟ هل لأن أحدهم انتصر على الآخر؟ أم هل لأن الساحة تحتاج إلى تجديد؟ السؤال برسم الجميع من دون استثناء. ولا دخل للسياسة أو الاقتصاد فيه. هنا أتكلم عن الساحة الأدبية النقدية تحديدا.
أتساءل أيضا هل الأديب يصنع الساحة أم الساحة هى من تصنع الأدباء؟ مع طغيان كتاب الرأى وغياب دور الأندية الأدبية أجد الساحة مفرغة ومفلسة وسطحية. مفرغة من أفكار جديدة. ومفلسة لناحية الأدوات الأدبية. وسطحية بسبب ضحالة المضمون الثقافى. هل لأن التكنولوجيا غيرت قواعد اللعبة؟ أم أن صنف القضايا العامة قد اختلف؟ بمعنى آخر هل المعضلة فى السوق أم فى البضاعة المعروضة؟
قد يدعى البعض أننى أمارس التعميم السلبى فى وصف الساحة الأدبية السعودية. وأن هناك أعمالا وأفكارا وتيارات تتناطح. حسنا لماذا لم تعد هذه الأعمال عنصر جذب وإثارة؟
عودة إلى مفارقات الساحة الأدبية وكيف أن الزمن كفيل بإعادة التوازن إليها. بخصوص أغنية «الأطلال» الشهيرة التى أحدثت خناقة أدبية كبيرة يومها. وجدت طريقها إلى السعودية بلحنها وصوتها وكلامها وحتى الخناقة حولها. وبالرغم من أن الخناقة بين الشاعر والملحن والأدباء ليست غريبة فى عالم الثقافة إلا أن مساحة صوت المطربة أم كلثوم كانت محط تساؤل. وهى التى تعتبر اليوم معجزة صوتية فى الطرب وليست ظاهرة فقط. دفع كل ذلك بالأديب غازى القصيبى ابن مدينة الملح إلى كتابة دراسة بعنوان «عن ناجى ومنها». دراسة متزنة عن الشاعر وإن لم يكتب الوزير غازى صراحة أنه تمنى لو أن الشعر من نظمه ولو أن أم كلثوم غنته.
فى كتابه «أعوام نجيب محفوظ، البدايات والنهايات» يفند الأستاذ محمد شعير بشكل نقدى بديع كيف خرجت مذكرات الروائى الأستاذ نجيب محفوظ (الأعوام) من رحم مذكرات طه حسين (الأيام). بالرغم من أن مذكرات محفوظ لم تنشر فقد حصل عليها الكاتب جراء عملية تنقيب أدبى لا تخلو من المفارقات! وكأن الساحة الأدبية بحر يفيض بما يحمله من أدب وفن ولو بعد حين. وهو ما حصل مع المؤلف حين وقع على مخطوطات محفوظة بالمصادفة عن طريق الإيميل.
اليوم المفارقة الكبيرة تكمن فى أن ركود الماء يجلب المرض. يا ترى من يرمى حجرا فى ساحتنا الأدبية السعودية فيحرك المياه الراكدة؟ هل من غذامى جديد؟ الزمن كفيل بالإجابة.

كاتب سعودى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved