العنف والسخرية

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 8 يونيو 2014 - 5:35 ص بتوقيت القاهرة

لم أصادف بشرا ماتوا من الضحك، لكن سمعت روايات الكثيرين حول من ماتوا قهرا أو كمدا... افترسهم الحزن وقلة الحيلة، فقرروا الانسحاب وترك الجلادين ليعيشوا بغيظهم. أما هؤلاء الذين اتخذوا السخرية نهجا، فكان هناك ما يصبرهم على ما بلاهم ويجعلهم أكثر قدرة على انتعال الأسى والثأر لكرامتهم من خلال الضحك والتنكيل.. وإلا لما وجدوا أمامهم سوى العنف بأنواعه.

ما بين العنف والسخرية مساحة مضطربة.. كلاهما قد يستخدم للمقاومة، وكلاهما قد يبطل مفعول الآخر.. أى أن تدخل دوامة العنف فتفقد قدرتك على السخرية، أو تتهكم من كل شىء بدلا من أن تلجأ إلى الفعل وتغيير المكروه باليد. هذه الأفكار وغيرها تذهب وتجىء بلا استئذان.. تعبث برأسى، وإذا بكلمات الكاتب ألبير قصيرى ترن فى أذنى: «هناك توافق آراء حول التردى والبَلَه.. كل الناس تفكر بالطريقة نفسها، أما الذكاء بالنسبة لى هو أن تفهم وتستوعب، لذا فشخوصى تستوعب الواقع وتلفظه، كما تتمرد على طبيعة البشر والطغاة». بالفعل كانت شخصياته تتهكم من كل شىء وتتخذ من السخرية سلاحا، فقد احتفظ الكاتب بروح الدعابة المصرية، رغم ارتحاله إلى باريس منذ أربعينيات القرن الماضى حتى وفاته بها فى الثانى والعشرين من يونيو قبل أربعة أعوام، وهو الذى ولد فى حى الفجالة سنة 1913. ظل مقيما فى الفندق ذاته منذ وصوله باريس، وظل يكتب عن مصر ومن عرفهم، حتى ولو بالفرنسية التى تعلمها منذ الصغر... فهو لم يقرر الهجرة إلا بعد أن مات أو سافر هؤلاء.

•••

منذ سنوات نشعر وكأننا نعيش فى روايته «العنف والسخرية» التى صدرت فى منتصف الستينيات.. أحداثها تدور فى الإسكندرية، بين حى الجمرك وشارع الكورنيش، حتى لو لم يذكر اسم المدينة بشكل مباشر. سعى إلى تجريدها من اسمها دون طمس معالمها، لتصبح وعاء لأحداث وشخصيات قد تجدها فى مصر أو تونس أو الشام.. أو أى مدينة أخرى فى الشرق الأوسط الذى تصادف أن نشهد حاليا إعادة تقسيمه أو تشكيله أو تكوينه.. اختر ما تشاء من الألفاظ والمسميات، لكن نعرف أن شيئا ما يحدث فى هذه المنطقة، مثلما حدث من قبل.

بطل «العنف و السخرية» كان يصنع الطائرات الورقية ليسعد الأطفال ويعلمهم التحليق بعيدا عن مجتمع لا يعجبه. وفى السجن حيث الحرامية الكبار والصغار، تعلم المقاومة وإضعاف السلطة بالسخرية. لذا قرر هو ومن معه أن يشهروا سلاح الضحك ويجعلوه فى خدمة الثورة على السائد والمهيمن. وبالتالى نرى فى الرواية مدينة خرجت لتوها من ثورة، لكن النظام الجديد لا يختلف كثيرا عن القديم، بل مجرد تغيير فى الوجوه. ونرى أيضا رافضين لهذا الوضع: البطل وأعوانه من أنصار إزاحة الهيبة عن الحكام بالسخرية منهم، فى مقابل من فضلوا العنف كوسيلة للتعبير عن غضبهم. وهنا يبرز السؤال: ماذا لو أغلقنا الباب أمام الضحك؟ ماذا لو لم تتسع الصدور لسخرية من لبس الأسى ومشى به؟ نحاصر خياراته ولا نترك له بديلا، فالهزل سيتحول إلى مزيد من العنف.. وتتسع دائرته.

•••

نعيش كما أبطال الرواية على أطلال المدينة، وكما فى الرواية أيضا تطارد أجهزة الأمن من يرسمون الصور الكاريكاتورية فى المراحيض. ويكتفى البعض بذكر محاسن موتانا، مهما كان حجم الإساءة والآثام التى اقترفوها. (رحم الله ألبير قصيرى فى ذكراه، فقد استشرف ما نعيشه وآخرون).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved