أطفال على مسرح الحياة

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 8 يونيو 2016 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

تظهر لنا على شبكات التواصل الاجتماعى صور لطلاب مدارس وجامعات يحتفلون بتخرجهم هذا الشهر، بل تظهر لنا أحيانا أيضا صور أطفال تحتفل مدرستهم بتخرجهم من المراحل الابتدائية أو حتى ما قبل الابتدائية. هذه هى الفترة السنوية التى يطوى فيها الأطفال عاما دراسيا نقلهم على الأغلب من فصل إلى فصل أعلى منه، ويخرجون من العام المنصرم بحفلات موسيقية ومسرحيات وحفلات تخرج يحضرها الأهل وتحصد صورها التعليقات المحبة والمباركات.


حضرت هذا الأسبوع حفلا موسيقيا نظمته مدرسة أولادى، فشاهدت بعض الأولاد يغنى على خشبة المسرح وبعضهم يعرض رقصة والبعض الآخر يمثل مسرحية.

جلست بين من حضر من الأمهات والآباء وبعض الجدات والأجداد، أنظر أمامى علنى أفهم إن كان ابنى قد تخلص من نوبة الخجل المفاجئة التى اجتاحته قبل العرض بقليل، وجعلته يطلب ألا يظهر على المسرح. بدا لى من حيث جلست أنه متمالك أعصابه مندمج مع زملائه فى النص الذى تدربوا عليه فى الفترة الماضية بإشراف مدرستهم.


***


على مسرح آخر فى لبنان، حضرت الأسبوع الماضى عرضا مشابها، مجموعة شباب وشابات عرضوا مسرحية قاموا بتأليفها بإشراف مخرجة شابة هى الأخرى، تدربوا عليها حتى حفظوها ونفضوا عن أنفسهم الشعور بالحياء وعدم الثقة بالنفس. تفاعلوا مع بعضهم البعض على المسرح حتى اندمجوا تماما وبان عليهم ارتياحهم مع أجسادهم وأدوارهم. وتفاعل معهم الجمهور الكثيف الذى جاء ليحضر العمل، فضحك معهم الناس وصفقوا واسترخوا بينما تابعوا هم الكلام والغناء والحركات.


الجمهور فى لبنان، كما فى مصر، كان أيضا مكونا من أهالى الممثلين الشباب وأفراد عائلاتهم وأصدقائهم. الأمهات فى لبنان، كما فى مصر، تلمع عيونهن حين تظهر بناتهن على خشبة المسرح. «هى بنتى» تقول الأم فى لبنان، كما تقول الأم فى مصر «دى بنتى».


***


لا فرق ظاهرا لمن يقرأ هذا النص بين ما شاهدته فى لبنان والعرض الذى حضرته فى مصر: حفلة نهاية السنة يبتهج فيها الأولاد ويفتخر فيها الأهل. فى مصر الحفلة كانت حفلة نظمتها مدرسة، أما فى لبنان فالحفلة هى حفلة نظمتها مؤسسة ثقافية تعمل مع المجتمعات المهمشة ومن ضمنها مجتمعات اللجوء، فالمسرحية التى حضرها قرابة الألف شخص على مسرح فى البقاع فى لبنان هى مسرحية اقتطع الأولاد من وقتهم فى العمل حتى استطاعوا أن يبنوها معا.

شباب وشابات انقلبت حياتهم رأسا على عقب بعد خروجهم من سوريا بسبب الحرب، شباب وشابات كانوا هم أيضا يذهبون إلى المدرسة ويعودون إلى بيوتهم وقت الظهر فتكون والداتهم قد حضرن لهم وجبة الغذاء.


أما اليوم، فهم يتمسكون بالحياة ويقفون على مسرحها متحدين ظروفهم القاهرة، يجتهدون ولو لساعات قليلة كل الأسبوع حتى يحسنوا أداءهم. يتدربون على أدوارهم بين ساعات العمل والقلق والبعد عن المألوف. بعضهم اختار الموسيقى فالتحق بإحدى مدارس الموسيقى التى فتحت أبوابها لأطفال فقدوا الكثير. زرت إحدى المدارس مع مجموعة أصدقاء أخيرا فلم يحملنى عقلى حين غنى الطلاب «عالروزانة». تمايلت على إيقاع الطبلة ونغمة العود وأنا أغنى معهم «يا رايحين لحلب حبى معاكم راح».

سألتنى صديقة بعد الزيارة أين تعلمت الكلمات فلم أستطع الإجابة. فى سوريا هناك أغان ننتبه فجأة أننا نحفظها، نحن ندندنها ونعرف نغماتها حتى لو نسينا بعض الكلمات. نحن نكبر وصوت صباح فخرى يصدح من مكان ما، ينبعث من الراديو أو من عازف العود فى مطعم ما فترانا نغنى بصوت خافت معه «البلبل ناغى ع غصن الفل، آه يا شقيق النعمان، قصدى ألاقى محبوبى بين الياسمين والريحان».


***


عدد الأطفال المتسربين من الدراسة فى العالم العربى مفزعة فى معظم البلدان، ونسبة الأميين مازالت مرتفعة رغم تعهد الحكومات بفتح المدارس وإلزام الأسر أن تعطى أولادها فرصة الدخول إلى المدرسة. أسباب كثيرة، على رأسها ضعف الرغبة السياسية، تحول دون تقدم المنطقة العربية فى مجال التعليم، لكن المصيبة زادت مع عدد الأطفال السوريين الذى سقطوا من المنهاج تماما حتى باتت المنظمات الدولية تشير إليهم بوصف «الجيل الضائع».


أفكر فيهم وأنا أجلس فى مسرح المدرسة فى القاهرة، وأتساءل ما المستقبل الذى ينتظر أطفالا لم يتعلموا فى عصرنا هذا، أذكر صديقة قالت مرة لطفل يشحذ فى الشارع «ماذا تفعل هنا؟ يجب أن تكون فى المدرسة».

أتذكر أننى حين سمعتها تلسعه بتلك الكلمات أدركت أن وقعها على الطفل قطعا كانت مختلفة عما عنته هى، فهى قصدتها ربما مجازا «ما الذى جعل طفلا مثلك يحوم فى الشوارع بدلا من أن يكون فى الفصل»، بينما هو، الطفل ذو الست أو سبع سنوات، ما أدراه أين يجب أن يكون، ما يعرفه فى سنوات عمره القليلة هو الشارع والحرمان واستجداء العطف.

ما يعرفه هو أن غيره من الأطفال يلعب فى باحة المدرسة ويتعلم فى صفوفها ويجر وراءه شنطة فيها أقلام ملونة.


***


هناك مواسم فى السنة تذكرنى دائما بغياب عدل الدنيا من حياة الكثير من أولادها. آخر العام الدراسى هو أحد هذه المواسم التى ينعصر فيها قلبى من المفارقة بين حفلات التخرج وبين الطرق المسدودة، بين ما هو بالنسبة للكثيرين أمر عادى، كوداع المعلم وزملاء الدراسة والمضى قدما فى الحياة، وبين طريق لا يظهر آخره من حيث نقف، مع ولد فقد مقعده الدراسى سواء بسبب الفقر أو الحرب.

موسم التخرج يدفع بالمحظوظين إلى حضن المستقبل ويجبر الأقل حظا على الوقوف فى أماكنهم، على خشبة مسرحهم، يرون الآخرين ماضين قدما دون أن يستطيعوا مواكبتهم والمشى معهم.


كاتبة سورية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved