المدن الجديدة... تفكك متزايد أم إمكانية للالتئام؟

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الإثنين 8 يونيو 2020 - 9:31 م بتوقيت القاهرة

خرائط جوجل للأرض كما تبدو من الفضاء قدمت خدمة كبيرة للمهتمين والمشتغلين بالعمران، كما ساهمت أيضا فى توفير بيانات ذات قيمة عالية للعديد من الباحثين والطلاب فى مجالات أخرى عديدة. ولكنى شخصيا أعتمد أيضا على موقع آخر للجمعية الجغرافية الوطنية والذى يبدو لى أفضل من ناحية الجودة والوضوح ولابد لى أن أشكر أحد طلابى فى مرحلة الماجيستير لإرشادى له.

                   "صورة من موقع ناشيونال جيوجرافي ماب ميكر"


يظهر فى الركن الأيمن فى أسفل الصورة المرفقة مجتمع سكنى مغلق على حافة المقطم الشمالية وتظهر بها مناطق سكنية تحيط بملعب للجولف ذى حشائش خضراء ويظهر ملاصقا للمنطقة ما يبدو أنه مرحلة قادمة من الامتداد لهذا المجتمع ويبدو بطبيعته الصحراوية الأصلية. ولو تحركت ببصرك لأعلى قليلا لرأيت ما يبدو مشروعا سكنيا حكوميا مكونا من عمارات سكنية مشابهة لتلك التى نراها فى مناطق عادية وإن كانت تلك العمارات لا يوجد بها فراغات بينية كبيرة، ثم إذا تحركت ببصرك للأعلى ولليسار لرأيت تكدسا هائلا من المساكن التى تمثل جزءا كبيرا من منطقة منشأة ناصر ثم يظهر طريق النصر أو الأتوستوراد ليفصل بينها وبين جبانة القاهرة التاريخية أو ما كان يعرف بصحراء المماليك وتظهر فعلا كذلك حتى وقت الحملة الفرنسية وكما صورها رساموها. وبرغم ما يبدو من تجاور فى الصورة لكن الطبوغرافيا الخاصة فى تلك المنطقة هى ما يفصل المنتجع السكنى المرتفع عن المناطق السكنية الأكثر انخفاضا حتى نصل للمقابر التاريخية فى أكثر المناطق انخفاضا. ويعكس هذا الوضع نقيض ما كتبه جمال حمدان فى شخصية مصر عن رؤيته أن الأغنياء يتجمعون على ضفاف النيل فى المناطق المنخفضة جغرافيا بينما الآخرون ومن بينهم الفقراء يعيشون فى المناطق المرتفعة جغرافيا.
***
فى أماكن أخرى فى القاهرة وخاصة حول الحواف الشرقية والغربية تظهر الخرائط الجوية ذات الألوان الواضحة كيف تحولت وتتحول الصحراء حول القاهرة ويمكن لنا أن نرى أماكن قد لا نستطيع الدخول إليها بسهولة إن أمكن ذلك أصلا. ويظهر فيها الفصل المكانى أوضح حيث الطبوغرافيا فى غالبها منبسطة أو قريبة من ذلك. ويشير الجدل الذى دار منذ أسابيع قليلة حول أحد الإعلانات لحى سكنى كبير فى شرق القاهرة إلى أحد مظاهر التباعد العمرانى والاجتماعى الذى هو آخذ فى الوضوح فى العقود الثلاثة الأخيرة والذى يتضمن فى جوهره وسم المناطق القديمة بصعوبة الحياة الناتجة عن تلوث الهواء والكثافة السكنية الزائدة وصعوبة الوصول للخدمات والمشكلات التى ربما من الصعب التعامل معها وقد لا يجدى سوى تركها بالكامل والهجرة لأحد التجمعات السكنية المغلقة ذات الكثافات السكنية المنخفضة نسبيا والمناطق الخضراء التى لا تتناسب منطقيا مع كونها قابعة فى قلب الصحراء سواء الشرقية أو الغربية. أى أن الأغنياء يعيشون على هامش المدينة بينما يعيش الآخرون فى قلب المدينة. ولم يتحرك البعض لهامش المدينة فقط بل قام البعض بترك المدينة بالكامل وهاجروا بصورة دائمة إلى منتجعات فى البحر الأحمر التى ربما توفر لهم نوعا من المساحات الحرة للعيش بأنماط ربما لا تتوافق كثيرا مع الكثير من الأنماط السائدة بين سكان أحياء القاهرة.

يتزايد التفكك ليس هذا فقط على حساب تماسك وترابط المجتمع ولكن أيضا على حساب اختراق أو بالأدق تعدى حدود الأنظمة الطبيعية كما فى تحويل المناطق الصحراوية محدودة الماء إلى حدائق غناء تروى بماء ينقل إليها من مسافات بعيدة وبتكلفة باهظة ويغير أنظمتها الطبيعية الهشة كما يتم أيضا استهلاك الموارد الطبيعية المحدودة لأماكن عديدة أخرى كما نرى فى تحويل بعض جزر النيل لمناطق مبنية بدلا من الحفاظ عليها هى وبؤر أخرى قليلة للطبيعة داخل المدينة. سيؤدى هذا الفعل المستمر للأسف عاجلا أم آجلا إلى مشكلات كبيرة لنا جميعا. هذا التفكك الآخذ فى تحويل ليس فقط مدينة القاهرة ولكن مدن أخرى متعددة ربما حان وقت إعادة النظر فى خطورته ومواجهته والتعامل معه.
***
تطرح الصدمة الصحية التى نواجهها تحديات كبرى ليس فقط على عمران وهيكل مدينة القاهرة ولكن على جميع مدن العالم وكما كتب ريتشارد سينيت فى مقال مهم قريبا فهناك تحديان رئيسيان، الأول اجتماعى حيث بدا من الواضح أن بعض سكان المدينة الذين يتمتعون بظروف مادية أفضل هم فى وضع آمن صحيا نسبيا بينما الطبقات الأقل حظا من العمال وعندنا تشمل أيضا العاملين بصورة غير رسمية والتى قدرت فى إحدى تقارير البنك الدولى بنحو 63% من القوى العاملة فى وضع أقل أمنا صحيا. أما الثانى فهو بيئى حيث يمثل التباعد الجسدى للحفاظ على صحة الفرد والجماعة ما يبدو أنه نقيض واضح لمبادئ التنمية العمرانية الأكثر استدامة والتى تروج للكثافة والتماسك من أجل التعامل الأسلم مع الموارد البيئية المحدودة المتاحة والأنظمة الإحيائية الهشة. فهل يدفعنا الخوف على أنفسنا إلى مزيد من التفكك والعزلة أم يمكن أن نتوصل لحلول تمكننا من الحفاظ على التباعد المطلوب للصحة العامة بدون أن يلجأ كل منا لملجـأ تتيحه له إمكانياته المتاحة.

ربما تلوح بعض الإشارات الجيدة فى الآفاق مثل تلك الدعوات المنتشرة (أصبح البعض منها فى خلال مدة كتابة هذا المقال واقعا) فى العديد من المدن عبر العالم والتى تخطت نحو مائة وستين مدينة فى بداية شهر مايو لدعم وسائل التنقل النشطة التى تعتمد المشى وركوب الدراجات كوسائل يمكن أن تسمح لنا بالتباعد الصحى المطلوب وبالتالى فهى أكثر أمنا من الوسائل الأخرى وفى نفس الوقت نظل قادرين على رؤية باقى أفراد المجتمع الابتسام للآخرين حتى ولو من بعيد نسبيا بما يمكننا من الاستمرار بالإحساس بأننا جزء من شىء أكبر. فهل يمكن أن ننضم لهذا التفكير الخلاق ونحول بعض آمالنا لمستقبل أفضل وواقع ولو بصورة محدودة أولا ثم يمكن توسيع مجالها فى حال نجاحها. وهل يساعدنا إدراكنا لمدى احتياجنا للعلم والمعرفة للنجاة لتطوير ودعم قيمة الحياة ليست فقط الفردية ولكن الجماعية ونبدأ فى خطوات التحول لمجتمع يترسخ فيه إدراك أهمية وقوة المعرفة الحقيقية. وبما أن الأبحاث العلمية المتعددة بدأت توضح لنا بصورة كبيرة كيف أن اختلال توازن النظام الطبيعى وتلوث الهواء مرتبطين بهذا الوضع الصحى الخطير فهل نعمل بجد على استعادة الطبيعة والأماكن التى سلبت منها فى أجزاء كبيرة من مدننا والتى تبدو أحيانا حين النظر إليها من الجو أو جوجل أو ناتجيوماب ميكر كأنها خالية من الحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved