الجزء الغاطس أخطر

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الجمعة 8 يوليه 2016 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

أستغرب ألا ينال غش الطلاب فى الامتحانات حقه من البحث الجاد والمعمق. ويدهشنى أن يقتصر الأمر على محاسبة بعض الموظفين وتشديد العقوبة على واقعة الغش، أو على طباعة الأسئلة فى مطابع الجهات السيادية. وهذه إجراءات قد تكون مفيدة فى الوقت الراهن، على الأقل لتهدئة المشكلة وتسكينها مؤقتا، لكنى أزعم أنها لا تمثل حلا لها. وإذا سألتنى ما الحل إذن، فردى أنه لا يوجد لدى حل، لكن ما أعرفه أن الأمر أعمق وأعقد من أن يحل بمثل تلك الأساليب، أعرف أيضا أن مسألة الغش وتسريب الامتحانات تمثل أحد أوجه المشكلة أو الجزء الذى برز منها فى العام الحالى. أما الجزء الغاطس فهو الأكبر والأخطر.

قبل أن أخوض فى التفاصيل فإننى أعيد التأكيد على أننا أمام مشكلة وثيقة الصلة بالأمن القومى لمصر، وأن الذين ينجحون بالغش الآن هم الذين سيحكمون الوطن بعد عشر سنوات أو أقل. ولنا أن نتصور مستقبل بلد يقوده مثل هذه النماذج التى تفوقت بالتزوير والغش.

لست مؤهلا لتقديم مقترحات حل المشكلة، لكنى قد أستطيع أن أسهم فى تشخيصها سواء بالملاحظة المكتسبة من خبرة العمل أو من خلال ما سمعت من آراء لأصدقاء فى مختلف مراحل التعليم، من الابتدائى إلى الجامعى وما بعد الجامعى.

قال لى صديق حى يرزق أنه لم يقبل حين تقدم للالتحاق بمدرسة ببا الابتدائية الحكومية بمحافظة بنى سويف فى عام ١٩٤٨، لأنه رسب فى امتحان المعلومات العامة. إذ سئل عن موعد زراعة محصول القمح فأخطأ فى الإجابة. ورفض طلبه رغم حصوله على الدرجة النهائية فى الحساب والإملاء ونجح فى المطالعة. حينذاك اضطر للالتحاق بمدرسة واصف غالى الابتدائية الخاصة بالمدينة، لكنه لم ينجح فى امتحان اللياقة الصحية، وأعطى مهلة أسبوعين ليستعيد عافيته بالمقويات. وحين قُبل ووصل إلى الصف الثالث فإن مدرس الحساب (الأستاذ ويلسون) أراد تقوية تلاميذه فطالبهم بالقدوم إلى المدرسة قبل ساعة من الموعد كى يعطيهم درسا يرفع به مستواهم. وفعل ذلك متطوعا وبغير مقابل. ودروسه كانت تستمر من أول شهر مارس وحتى موعد امتحان نهاية العام.

إذا كان ذلك مستوى الابتدائية فى الأربعينيات، فإننا عندما نكتشف أن وزير التربية والتعليم يخطئ فى اللغة العربية، وتصدمنا لغة رئيس البرلمان الذى كان أستاذا جامعيا مرموقا، كما تدهشنا ركاكة لغة كبار القضاة وهم يقرأون أحكامهم، فإن ذلك لابد أن يذهلنا وينبهنا إلى أنها ليست مشكلة لغة ولكنها أزمة نظام تعليمى آخذ فى التدهور، فضلا عن أنه يقلقنا إذا اعتمدنا مقولة ابن حزم التى ذكر فيها أن اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال.

أرجو لا أبالغ إذا قلت إنه لم يعد لدينا تعليم حقيقى فى مصر، لا فى التلميذ أو المدرس أو المدرسة أو المناهج التى نحشو بها رءوس التلاميذ، الذين أصبح بعضهم لا يجيدون القراءة والكتابة وهم فى الإعدادية، أى بعد نحو ٦ سنوات من التعليم الوهمى.. والفساد فى التعليم الخاص لا يختلف كثيرا عنه فى التعليم العام. ذلك أنه تجارة بالأساس، ولأن ثمة تفاخرا بينها فى السمعة ونسب النجاح، فإن أصحابها يتساهلون فى إنجاح الطلاب لتسويق مشروعاتهم وإغراء أولياء الأمور وجذبهم.

حين يكون الأمر كذلك فى مختلف مراحل التعليم العام، فلا ينبغى أن نتوقع الكثير من التعليم الجامعى، الذى أصبحت أغلب قياداته مشغولة بالأمن بأكثر من انشغالها بالتعليم خصوصا فى الجامعات الحكومية التى تضم العدد الأكبر من الشباب. أما الجامعات الخاصة، التى هى بدورها مشروعات تجارية، فإن الارتقاء بالتعليم آخر ما يشغلها، بعدما أصبح الربح هو أول وأكثر ما يشغلها.

حكى لى أستاذ مرموق فى الطب أنه عين عميدا لإحدى كليات الطب فى جامعة خاصة وأنه فصل أحد الطلاب الذين ضبطوا متلبسين بالغش فى الامتحان. وهو ما أثار استياء صاحب المشروع الذى قرر إعادة الطالب الغشاش، وقال للأستاذ صراحة إن أمثال هؤلاء هم الذين يغطون مرتبات الأساتذة واحتياجات الجامعة، فلم يجد الأستاذ مفرا من تقديم استقالته ردا على ذلك. ولنا أن نتصور أن ما أغضب صاحبنا ودفعه إلى الاستقالة، ربما قبل به آخرون ممن يعتمدون فى مواردهم على الاستمرار فى الوظيفة. بالمناسبة فإننى سمعت رأيا لخبير بريطانى فى الأطباء المصريين المتقدمين للزمالة فى بريطانيا، قال فيه إن ثلثهم يمكن أن ينالها بعد عدة محاولات، والثلث الثانى غير مؤهل للحصول عليها، أما الثلث الثالث فيشمل أناسا غير مؤهلين للاشتغال بالطب أصلا!

فى هذه الأجواء لم يكن مستغربا أن تتسرب بذور الفساد وآفته إلى المحيط الجامعى، فتكثر السرقات بين الأساتذة، وتظهر مكاتب طبخ رسائل الماجستير والدكتوراه لمن يريد.

لا أريد أن أعمم، لأننى أعرف نماذج سبحت ضد التيار ولاتزال قابضة على الجمر، فالشرفاء لم ينقرضوا لكنهم صاروا استثناءات فى مختلف مراحل التعليم. ما يزعجنى ليس فقط تعدد مظاهر الخلل واستفحاله، ولكن السكوت على الخلل والتعامل معه بأسلوب المسكنات وردود الأفعال، كما حدث أخيرا فى مسألة الغش وتسريب الامتحانات. وحين تكون الحكومة مشغولة بالاقتصاد والأمن، والبرلمان مشغول بالتوقيت الصيفى ودعم الحكومة، والنخبة مشغولة بالمزايدة على تجديد الخطاب الدينى، فلا غرابة أن تتراجع أهمية ملف التعليم وتتفاقم مشكلاته. ويزداد الأمر تعقيدا إذا أدركنا أننا دأبنا على إحالة مشكلاتنا المستعصية إلى القوات المسلحة لكى تنهض بها. لكنها فى هذا الملف بالذات لا تستطيع أن تفعل فيه شيئا يذكر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved