مباريات كأس العالم وأحوال الشعوب

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 8 يوليه 2018 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

أطمئن القراء الكرام أنى لن أنتحل شخصية المعلق الرياضى، فلست رياضيا، وكما اكتشفت مؤخرا، معلوماتى عن الفرق المتنافسة على كأس العالم فى روسيا هى أقل بكثير مما يعرفه العامل الفنى الذى أستعين به من حين لآخر لضبط طبق الاتصالات بمنزلى، والذى فاجأنى بمعرفة اسم هارى كين مهاجم فريق إنجلترا والذى لم أكن سمعت باسمه من قبل. ولكن سبب التصدى فى هذه المقالة لكأس العالم فى كرة القدم هو من ناحية مرض مهنى وتوابع وربما جذور هذا المرض، فدراسات التنمية هى أحد مجالات تخصصى الأكاديمى، وجذور هذا الاختيار هى تعاطفى مع المظلومين والمهمشين فى كل أنحاء العالم، ولما كانت الشعوب المستعمرة سابقا أو ما كان يسمى بالعالم الثالث فى وقت الحرب الباردة، تضم غالبية المظلومين والمهمشين فى عالمنا المعاصر فأنا أتعاطف معهم، دون أن أغبط حق من يؤدى اللعبة الحلوة فى هذه الدورة من كأس العالم فى كرة القدم، والتى يصفها البعض بأنها أقوى دوراته على الإطلاق.

والذى يدعونى لكتابة هذا المقال هو شعورى بخيبة الأمل فى هذه الدورة التى تقترب من مرحلة التصفيات النهائية، فلن يشارك فى هذه التصفيات أى من الفرق التى تنتمى للشعوب المظلومة التى أتعاطف معها. خرجت مؤخرا فرق أمريكا اللاتينية مثل البرازيل وأوروجواى بعد أن غادرتها الفرق الأخرى من القارة وفى مقدمتها الأرجنتين والمكسيك، وخرجت الفرق الأفريقية مثل السنغال ونيجيريا. وطبعا لم أكن أتوقع أن تصل أى من الفرق العربية الأربع لمرحلة التصفيات، وأظن أن ذلك كان شبه مؤكد لفريقى مصر والسعودية، وإن كانت هناك آمال لم تتحقق بأن تدخل فى دور الستة عشر أى من المغرب أو تونس.

كنت سأشعر بالسعادة لو وصلت واحدة من هذه الفرق إلى التصفيات النهائية، ولو فازت فى نهاية المطاف بكأس العالم فى كرة القدم. فنحن شعوب الجنوب شعوب مهزومة، والذين يتحكمون فى مصير العالم ما زالوا رغم الصعود الصينى هم حتى هذه اللحظة حكومات الدول المستعمرة السابقة، من خلال مجموعة السبع وصندوق النقد الدولى والبنك الدولى والنظام المصرفى العالمى وشركات التكنولوجيا المتقدمة وشبكات وأدوات الاتصال الاجتماعى وقنواتهم التلفزيونية التى تصل إلى كل القارات وصحفهم وأفلامهم. نحن نخضع لهم فى كل هذه المجالات، وبقيت لنا الرياضة وتحديدا كرة القدم استطعنا أن ننازلهم فيها ونكسبهم، وهذا الفوز يعطينا شعورا بالتعويض النفسى. نعم نحن قادرون على نسيان أو تجاهل هزيمتنا المستمرة لدقائق. نحن نملك هزيمتهم. ولذلك كنت سأشعر بالسعادة مثلما كان يشعر مئات الملايين من الأفارقة والمسلمين عندما كان الملاكم الأسود محمد على كلاى يهزم ملاكمين بيض ويتربع على عرش الملاكمة فى العالم. كان يقتص لنا من عجرفة القوة الأمريكية الغاشمة فى فيتنام وأماكن أخرى فى العالم.
لم تصل أى من فرق الجنوب إلى مرحلة التصفيات النهائية، فهل هى مجرد مصادفة أن تقتصر المراحل النهائية فى البطولة على الدول الأوروبية، بل وباستثناء روسيا أن تكون كلها من دول الاتحاد الأوروبى؟

سبب التساؤل هو أن ذلك لم يكن الحال من قبل. فازت بعض هذه الدول فى أمريكا اللاتينية بكأس العالم مثل البرازيل والأرجنتين وأوروجواى. كما أن اللاعبين فى بعض الفرق التى ستخوض المباريات النهائية هم أصلا من دول إفريقية أو أمريكية لاتينية بل وبعضهم عربى الأصل. فما الذى جرى؟. هل كان هذا التفوق مؤقتا؟ وهل لا تساعد الأوضاع السائدة فى كل دول الجنوب على الاستمرار فى توليد المواهب؟ وما هو الحال عندنا؟

الهزيمة ليست مصادفة
إذا لم يكن فى الأمر أى مصادفة، فلابد أن تفوق فرق أمريكا اللاتينية أو إفريقيا فى دورات سابقة كان يعود إلى عوامل لا تتصف بالدوام، وأنه يصعب توليدها. يوصف فريق البرازيل بالسامبا، أى إنهم فنانون فى الرقص، وكان مشجعو الفرق الإفريقية يستعينون بالسحر لضمان فوز فرقهم. بينما كان الفريق الألمانى يوصف بالماكينة. طبعا هذه الأوصاف أطلقها المعلقون الرياضيون وشاعت، ولكنها تشير إلى عناصر القوة فى هذه الفرق. الأمريكيون اللاتينيون والأفارقة يعتمدون على الخروج عن المألوف والإبداع والخيال ويأمل اللاعبون الإفريقيون أن تساعدهم قوى خفية، ويدعو اللاعبون العرب الله أن يقف الله إلى جانبهم، ولذلك يسجدون له شكرا عندما يحرز أحدهم هدفا، بينما يعتمد اللاعبون الأوروبيون على العمل الجاد المستند إلى العلم والانضباط، ويمكن أن يضيفوا له قدرا من الفن كذلك. المقومات التى تستند إليها الفرق الأوروبية قابلة للدوام بل تحولت إلى خصائص ثابتة لشعوبهم. أما مقومات النجاح لدى فرق شعوبنا هى مسألة حظ، قد يأتى، وقد لا يأتى.
ولكن ماذا عن اللاعبين من أصول إفريقية أو أمريكية لاتينية الذين انضموا إلى فرق أوروبية؟ هل تخلوا عن السمات اللصيقة بشعوبهم عندما غادروها إلى أندية قارة المستعمرين السابقين؟. طبعا لم يتخلوا عنها تماما، ولكنهم اكتسبوا من السياق المحيط بهم سمات جديدة، جعلتهم يتفوقون على أنظارهم ممن ظلوا فى بلادهم. هؤلاء اللاعبون أصبحوا نسخة جديدة بعد معيشتهم ومرانهم وتجربتهم الأوروبية. ومن ثم فهذا السياق الجديد هو الذى أكسبهم مقومات النجاح والفوز فى مباريات كأس العالم. ليست المسألة إذا هى الجينات التى ولد بها الأوروبيون، أو جينات جديدة اكتسبها من انضم إليهم من لاعبين من أصول غير أوروبية، ولكنه السياق الذى يحيط بكل جوانب الحياة فى هذه المجتمعات، فى الرياضة أو التعليم أوالصناعة أو الزراعة أو الخدمات.
ويبدو من ناحية أخرى أن السياق المختلف الذى يحيط بجميع جوانب الحياة فى مجتمعاتنا فى الجنوب لابد وأن يلقى بظلاله على أداء شعوبنا فى كل المجالات، حتى فى الرياضة، وما لم يتغير هذا السياق، فسوف يظل أداؤنا محبطا، وإذا كانت هناك ثمة انتصارات لنا فى مجال أو آخر، فهى مجرد مصادفة، وهى بحكم التعريف ليست قابلة للتكرار ما لم يتغير السياق المحيط بنا. كان انتصار البرازيل أو الأرجنتين أو المكسيك أمرا يدعو للدهشة وأحوال شعوب هذه البلدان هى ما هى عليه من أزمة اقتصادية وفساد متجذر فى نخبتها السياسية، وعنف يمارس على مواطنيها بدون مساءلة، ومستقبل ضبابى حول كيفية خروجها من أزمتها الراهنة حتى وإن كان انتخاب لوبيز أوبرادور يوحى ببعض الأمل فى أن تجد المكسيك فى سياساته طريقا للتخفيف من بعض نتائج ما أورثته لها نخبتها الحاكمة السابقة.

هل يمكن أن يتغير الحال؟
لا يجب على القراء الكرام أن يتهمونى بالتشاؤم، فهناك أمثلة عديدة على أن دولا من الجنوب استطاعت ليس فقط فى كرة القدم ولكن فى رياضات أخرى أن تحرز مرتبات متقدمة. الصين مثلا وكوريا الجنوبية أدتا أداء مبهرا فى دورة بكين للألعاب الأولمبية، وكان لكوبا تفوق بارز فى رياضات كثيرة فى مناسبات أولمبية سابقة. ولكن فى هذه الحالات كما فى حالة الدول الاشتراكية سابقا يعود الأمر إلى تبنى الدولة برامج رعاية وإعداد وتدريب شمل كل الشباب بلا تمييز، ولذلك ظهرت بينهم مواهب برزت على صعيد العالم. فهل نستطيع أن نسترشد بما سارت عليه هذه الدول؟. طبعا نستطيع لكن لو غيرنا السياق الذى يحيط بنا فى جميع المجالات.
أول عناصر هذا السياق أن يكون المسئول عن اكتشاف ورعاية الموهوبين لدينا هم الأجهزة المختصة بذلك. طبعا بعد إعادة تنطيمها وتأهيلها واحترام مبدأ التخصص.

وثانى عناصر هذا السياق ألا نتصور أن ما يجرى من مؤتمرات تحضرها جماعات منتقاة من الشباب للسماع لخطاب كبار المسئولين عن إنجازاتهم المبهرة فى جميع المجالات هى طريقنا للتصالح مع الشباب الذى ستخرج منه هذه المواهب. لا أعرف إن كان كبار المسئولين لدينا يعلمون بأن حلم كل شاب فى هذا الوطن هى أن يغادره اليوم قبل غد، وأن مئات من الشباب المصرى الواعد يفضل البقاء فى الدول المتقدمة وخصوصا ألمانيا لأنهم لا يجدون فى مجمل أوضاعنا ما يوحى لهم بأننا على الطريق الصحيح. أمثال هؤلاء الشباب كان يملؤهم الحماس لمصر أيام ثورة يناير وكانوا متحمسين للعودة لها بعد الثورة التى بادر بها أمثالهم. هذه الثورة التى تحمسوا لها توصف الآن فى مصر بأنها مؤامرة وأنها وضعت مصر على طريق الخراب الذى أنقذته منها القوات المسلحة.

أما من بقى من هؤلاء الشباب فى مصر فهم يعانون أوضاعا أسوأ مما عرفه أحمد زويل ومصطفى السيد ومجدى يعقوب وعادل محمود عبدالفتاح وهانى عازر ودعاهم للهجرة من مصر. تصوروا لو كان أمثال أحمد زويل الآن فى مصر وعرفوا أنه يجب الحصول على موافقة أجهزة الأمن شهرين مقدما للقاء أستاذ أجنبى وللذهاب إلى مؤتمر علمى أو للشروع فى مشروع بحثى مشترك مع جامعة أجنبية. تصوروا لو أن واحدا منهم طالب بالمشاركة فى مشروع بحثى حول استخدام الفيمتو ثانية، هل كانوا سيقبلون أن تكون هذه الأجهزة هى التى تتحكم فى مستقبلهم العلمى؟ هل كانوا سيترددون فى انتهاز أقرب فرصة للهرب من مصر. السياق الذى يخرج الموهوبين رياضيا هو نفس السياق الذى يرعى الموهوبين فى جميع المجالات.

سياقنا الحالى فى مصر، ويجب أن يقال ذلك بكل صراحة ووضوح، هو سياق طارد للمواهب، فى الرياضة وغيرها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved