مائة عام من الشيكولاتة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 8 أغسطس 2019 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

مع الاعتذار للكاتب الكبير جابرييل جارسيا ماركيز، لم أَجِد لمقالي اليوم أفضل من هذا العنوان الذي يمثل تنويعا على عنوان روايته الرائعة "مائة عام من العزلة". خبر أرسله لنا مركز "بصيرة" كالمعتاد عبر الإيميل، هذا نصه "يمر هذا العام ١٠٠ سنة على إنشاء أول مصنع مصري للشيكولاتة، وهو مصنع رويال كورونا الذي أنشأه اليوناني "تومي كريستو"، هذا الخبر القصير أتاني حين فجأة فأثار فضولي وأحيا ذكرياتي. بدا لي لأول وهلة أن السيد كريستو/أو خريستو الذي أسس مصنع كورونا في مصر كأول مصنع للشيكولاتة في الشرق الأوسط إنما يشبه بما فعله السيد بويندو بطل رواية "مائة عام من العزلة" فلقد حلّ بويندو أيضا بإحدى القرى فعمّرها وأذاع صيتها. في الحالتين: حالة خريستو وحالة بويندو تطور العمل الذي بدأه الرجلان وتوسع كثيرا، فغدت القرية مدينة وتحول المصنع إلى مشروع ضخم، وفي الحالتين أيضا لم تسر دورة الحياة في خط مستقيم فاحتدمت حيناَ الصراعات في القرية وخبا بريق المصنع لفترة، ثم ما لبثت القرية أن توازنت وسرعان ما استعاد المصنع ألقه.
***
عموما ليست هذه هي المقارنة الوحيدة التي استدعتها قراءة خبر مركز "بصيرة"، فمصنع كورونا أنشئ عام ١٩١٩ ليحدث ثورة في ذائقة المصريين كما أحدثت ثورة ١٩١٩ تطورا كبيرا في المسارات الوطنية والسياسية والدستورية المصرية، هل هناك علاقة بين عام ١٩١٩ والفعل الثوري؟، من يدري كل شيء جائز. سوف لن يرضى الكثيرون عن تلك المقارنة بين ثورة الشعب وثورة الشيكولاتة، لكن كثيرين أيضا من محبّي الشيكولاتة سوف يثمّنون ما فعله خريستو ليس فقط لأنه أدخلهم إلى هذا العالم البُنّي البهيج لكن أيضا لأنه أوجد لهم علاجا آمنا لكثير من حالات اكتئابهم، فالإحباط تعالجه الشيكولاتة. أقرأ أكثر عن اليوناني خريستو ومصنعه على موقع الشركة فيأخذني كالعادة ذلك التنوع الذي ميّز مصرنا القديمة، وأكتشف لأول مرة أن الغزالة التي صارت علامة تجارية لكورونا لها أصل جميل وإن كانت نهايتها حزينة. في خلفية المصنع كان هناك ملعب لكرة القدم يذهب إليه العمال للترفيه عن أنفسهم بين ورديات العمل، وكانت تعيش قرب الملعب غزالة يلاطفها العمال ويلاعبونها، ما هذا الذي أقرأ؟ غزالة تتجول في طرقات المحروسة في الربع الأول من القرن العشرين؟ نعم كان هناك غزال يتجول، هكذا يقول موقع الشركة والعهدة على الراوي. ذات يوم أصابت كرة طائشة الغزالة وقتلتها فتأثر خريستو بشدة وقرر أن يُخّلدها بأن جعلها العلامة التجارية لمنتجاته. وفي عام ١٩٦٣ تم تأميم شركة كورونا وأُدمجت معها شركة نادلر تحت اسم "شركة الإسكندرية للحلويات" لكننا ظللنا نستخدم اسم كورونا ولا نعرف غيره. ظهور نادلر في الصورة كان ملمحا بديعا آخر من ملامح التعددية المصرية، وذلك أن بورين موريس نادلر الذي أسس الشركة ( في عام ١٩١٩ أيضا!) هو يهودي مصري تخصص في إنتاج البونبوني أو الأرواح كما كان يسميها المصريون ربما نسبة للترويح عن النفس، لطيف أن يتم تقاسم الترويح عن المصريين: بالشيكولاتة من خريستو وبالبونبوني من نادلر.
***
من صنع كورونا تذوقنا في طفولتنا طعما كنّا نظن أنه الألذ على الإطلاق، وآه وألف آه من هذه الشيكولاتة الخبيثة "روكيت" التي لكأنها صُنِعَت خصيصا لتتناسب مع شقاوتنا، كنا نقضمها ونروح نشد ونشد حتى نفوز منها بقطعة صغيرة، وفي بعض الأحيان كانت هذه القطعة تقتلع معها ضرساً أو ناباَ وربما كنّا نتعمد ذلك، فكلما بدّلنا أسناننا أسرع بدونا أكبر وأنضج، نتعجل ونحن صغار مرور العمر ثم نعود ونتمنى لو لم يمر كأن بيدنا فرامل العمر نرفعها ونرخيها، والحق أن ليس بيدنا فرامل. في مدرستنا كانت توجد شيكولاتة من نفس النوع، كان اسمها "الشيطان أو العفريت" .. يا لطيف اللطف يارب، لكننا لسبب غير معلوم ارتبطنا بروكيت أكثر. ومن قبل أن يعرف العالم بسنين طويلة شيكولاتة الكيت كات أنتجت لنا كورونا شيكولاتة ساحرة ميّزناها بالقول "شيكولاتة الصوابع" لأنها كانت على شكل إصبعين اثنين، احتلت هذه الشيكولاتة مكانا ثابتا من مصروفنا الشهري لتدبير ثمنها وكان ثلاثة قروش ونصف، لكن أحيانا كانت تنافسها شيكولاتة بيمبو وكلتاهما تختلطان بالبسكوت. أما في صباحات الشتاء اللطيف فكان شراب الكاكاو الساخن هو منقذنا الوحيد من كوب اللبن الصرف الذي كان حليبا في البداية ثم دخلنا إلى عالم اللبن المبستر الذي كانت تتغنى به الإعلانات قائلة: لبن مبستر مبستر يفيدك أكتر أكتر .
***
في مطلع الألفية تمت خصخصة الشركة فبيعت لمجموعة سامي سعد، وبدأ تطوير منتجات كورونا لتناسب ذائقة الجيل الجديد: براونيز وتشيز كيك ونيوتيللا، وابتكارات أخرى عرضتها الإعلامية الكبيرة إسعاد يونس في برنامجها الشهير "صاحبة السعادة ". هذا الجديد الغريب لم تألفه الأجيال القديمة ولا تأقلمت معه، وهي حتى هذه الساعة تقاوم بشدة تسلل النيوتيللا للمذاقات الأصلية للأشياء من أول الفشار وحتى الكنافة، لكنها سُنّة الحياة، وذكاء المُلاّك الجدد لكورونا يتجلّى في أنهم جعلوا الجديد يعايش القديم. ولذلك فعندما دَفَعَت لي ابنتي بعود خشبي رفيع في آخره وحدة من لقمة القاضي مغموسة في شيكولاتة النيوتيللا وأغمضت عينيها قائلة "إنها قطعة من الجنة"! اعتذرتُ لها بلطف ومددت يدي إلى المائدة حيث توجد علبة البيمبو الحبيبة، ففي هذه وحدها الجنة .. كل الجنة !

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved