انفجار بيروت.. اللبنانيون والخيارات الصعبة!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 8 أغسطس 2020 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

لم يكن الانفجار «الهيروشيمى» الذى وقع فى مرفأ بيروت مساء الثلاثاء الماضى إلا بداية لانفجارات سياسية واقتصادية واجتماعية متتالية حوّل لبنان كله إلى كرة لهب. الانفجار الذى خلف حتى وقت كتابة هذه السطور 150 قتيلا وأكثر من 5000 جريح، أكثر من ثلثهم فى حالة خطرة بحسب تصريح وزير الصحة اللبنانى، هذا فضلا عن عشرات ما زالوا فى عداد المفقودين والأقرب أنهم لقوا حتفهم فى الانفجار المروع، كان بمثابة إعلان انفجار اللبنانيين على مختلف توجهاتهم وطوائفهم على نظامهم السياسى.
انفجار لبنان الحقيقى لم يقع يوم الثلاثاء الماضى، ولكنه وقع العام الماضى، حينما خرج عشرات الآلاف من اللبنانيين لا يطالبون فقط الحكومة بالاستقالة، ولكنهم يطالبون بتغيير قواعد النظام السياسى من جذوره وإنهاء نظام المحاصصات الطائفية الذى جعل لبنان أسيرا للعبة عض الأصابع بين القيادات السياسية للطوائف المختلفة، وهى اللعبة التى أدت إلى تيبس السياسة وانهيار الاقتصاد وانتشار الفساد، والأهم من ذلك كله هتك سيادة لبنان الذى أصبح مجرد ملعب لصراعات إقليمية ودولية آخر ما تأخذه فى الحسبان هو مصالح الشعب اللبنانى.
***
منذ العام الماضى واللبنانيون فى حالة انتفاضة شبه دائمة ضد الحكومة والنظام وكل أركان الدولة اللبنانية التى تأسس نظامها الطائفى فى عهد الاستعمار الفرنسى وخاضت تحديات داخلية وخارجية لا تنتهى أبرزها الحرب الأهلية الدموية التى قسمت البلاد إلى طوائف متناحرة ما زالت أصداؤها فى ذاكرة كل لبنانى حتى من لم يعشها، تخلل الحرب الأهلية اجتياح إسرائيلى مرتين (1978 و1982)، فضلا عن عشرات عمليات الاغتيال السياسى التى وقعت سواء أثناء الحرب الأهلية أو بعدها.
على الرغم من انتهاء الحرب الأهلية بتوقيع اتفاقية الطائف عام 1989، فإن النظام الطائفى لم ينته، فعلى الرغم من أن الاتفاق قد وضع نصا واضحا لإنهاء الطائفية السياسية، فإن غياب إطار زمنى وإجراءات محددة عن الاتفاق، جعلت النص مجرد حبر على ورق، فاستمرت الطائفية فى لبنان كأحد أهم أركان النظام السياسى، واستمرت معاناة اللبنانيين حتى اللحظة!
الحقيقة أن الطائفية ليست الأزمة الوحيدة فى لبنان، هناك أزمة أُخرى لا تقل خطورة وهى أزمة ميليشيات حزب الله، التى تجعل السيادة اللبنانية غير مكتملة لأن لبنان اختصارا أصبح بها جيشان، الجيش الوطنى اللبنانى، وجيش حزب الله! صحيح أن اتفاق الطائف قد نص صراحة أيضا على تسليم الميليشيات المسلحة لسلاحها إلى الدولة فى خلال ستة أشهر من توقيع الاتفاق، إلا أن حزب الله قدم نفسه كقوة مقاومة لإسرائيل فى الجنوب اللبنانى المحتل، فاستمر حزب الله ومعه استمر السلاح والميليشيات التى لا تعمل بتوجيهات النظام السياسى اللبنانى ولا وفقا لأجندته، ولكنها تعمل وفقا لأجندة النظام فى طهران!
قطعا الأمر لم يعد قاصرا على إيران، فأطراف إقليمية ودولية أخرى أصبحت متورطة فى الشأن اللبنانى، وأصبحت نخب الطوائف اللبنانية كل منهم مشدودا نحو طرف على النقيض من الطرف الآخر المدعوم بلاعب دولى أو إقليمى آخر وهكذا تفسخت البلاد ولم يعد اللبنانيون يرون فى نخبتهم من يعمل على تحقيق «المصلحة الوطنية»!
***
ما هى خيارات الشعب اللبنانى فى هذه الظروف العصيبة؟ لمعرفة مدى تعقيد الإجابة على هذا السؤال، يمكن تتبع رد الفعل اللبنانى على زيارة الرئيس الفرنسى ماكرون فى اليوم التالى للحادث. تحدث الرئيس الفرنسى عن أنه جاء بمبادرة لطرحها على القيادات السياسية، ولكن وبعد بعض الهجوم الذى تعرضت له الزيارة ممن رأى أن هذا تدخل فى الشأن اللبنانى، وخاصة بسبب حساسية تاريخ فرنسا الاستعمارى فى المنطقة، عاد ماكرون ليؤكد أنه لا يفرض حلولا ولكنه يطرح مبادرة، لكن ردود الأفعال المهاجمة لم تتوقف وربما لم تقتنع، فالجولة التى قام بها ماكرون مترجلا بين الناس لتفقد الدمار فى شوارع بيروت، تم الاحتفاء بها بشدة بين أحضان وقبلات وشعارات مؤيدة تطالبه بالتدخل! ما كاد الرئيس الفرنسى أن يغادر بيروت، حتى انتشرت الأخبار أن أكثر من خمسين ألف مواطن قد قام بتوقيع عريضة إلكترونية تطالب فرنسا بوضع لبنان تحت الانتداب لمدة عشر سنوات!
ليس صحيحا أن الأمر ثانوى أو لا يجب أخذه على محمل الجد كما ردد البعض، فعلى الرغم من استحالة تنفيذ الفكرة، فضلا عن سذاجتها فإنها تعبر عن قدر لا بأس به من اليأس والكفر بالدولة اللبنانية وقيادتها ونظامها الطائفى بواسطة المواطنين! وهذا الحنين إلى الاستعمار، له سوابق فى إفريقيا بل وفى العالم العربى أيضا، ليس هذا مجالا لمناقشة الفكرة، فالتجربة العملية تقول إن استدعاء قوى خارجية لضبط المشهد الداخلى لم ينجح أبدا عربيا، بل وقاد نحو المزيد من الدمار والفساد والانهيار ولنا فى العراق قدوة!
***
قالت إحدى الصديقات اللبنانيات تعليقا على العريضة المذكورة، أن فرنسا لا تحتاج لوضع لبنان تحت الانتداب لأنها بالفعل تتحكم فى قدر كبير من المعادلة السياسية دون الحاجة إلى عرائض تطالبها بذلك! وزاد مواطن لبنانى آخر تحدث لإحدى الفضائيات العربية عن الفكرة، فقال «إذا كانت لبنان تحت الانتداب الإيرانى بالفعل، فلماذا لا تكون تحت الانتداب الفرنسى أيضا؟» وهكذا فالقضية معقدة وبغض النظر عن مدى دقة هذه التعبيرات أو مدى مشروعية أو شرعية هذه المطالبات بوضع بلد مستقل تحت الانتداب، إلا أنها تعكس قدرا كبيرا من كفر ويأس المواطن اللبنانى بدولته وسيادتها، وهو أمر يجب محاسبة المسئولين فى لبنان عنه لا مساءلة الناس أو التشكيك فى نواياها!
هناك دائما طرحان أكاديميان للتعامل مع مسألة خيارات الشعب اللبنانى حال أراد التغيير، يرى الأول أن أى مساس بنظام المحاصصات الطائفية من شأنه أن يشعل حربا أهلية جديدة فى لبنان، فلا مجال لنظام انتخابى يعتمد الاقتراع العام دون تمييز بين المناطق أو بين الطوائف وإلا اشتعلت لبنان فورا! بينما هناك اتجاه أكاديمى آخر يرى أنه لا مجال للحديث عن أى إصلاح فى لبنان دون التخلص من النظام الطائفى، فكما قال أحد المواطنين اللبنانيين على مواقع التواصل «لو تولت الأم تريزا نفسها قيادة لبنان لفسدت وارتشت، لأن المشكلة فى النظام الطائفى لا فى الأشخاص!».
الحقيقة لكل رأى وجهاته، فالرأى الأول يأخذ فى الاعتبار تكالب القوى الإقليمية والدولية على لبنان مما يجعل البلاد أسيرة لمعادلة سياسية دقيقة، أى تغيير طفيف بها سيقلب لبنان رأسا على عقب وربما ينتهى الأمر بتقسيم البلد نفسه! بينما الرأى الثانى يتحدث بشكل عملى عن حقيقة مؤكدة وهى أنه لا حلول دون التخلص من النظام الطائفى، فاستمرار السياسة الطائفية يعنى صراعات فى لبنان لا تنتهى وفشل فى إدارة الدولة وعجز عن محاسبة المسئولين وهو ما يحدث بالفعل الآن!
لست مواطنا لبنانيا لأحكم، ولكن إن جاز لى التعبير عن رأى، فبكل تأكيد أنا مع الحل الثانى مع عدم إغفال مخاطر استغلال البعض لهذه التغييرات فى محاولة إحداث شرارة الفتنة الطائفية والحرب الأهلية.
لكن وكما أننا لا يجب أن نخضع دائما لابتزاز حزب الله تحت دعوى أنه قوات مقاومة، وما هو بكل أسف إلا ميليشيا مسلحة تفرض إرادتها وإرادة كفيلتها إيران على الداخل اللبنانى بل وعلى الإقليم العربى كله، فلا يجب أيضا أن نخضع لابتزاز التلويح بالحرب الأهلية حال التخلص من النظام السياسى الطائفى فى لبنان! يستطيع حزب الله أن يكون قوات مقاومة لو سلم سلاحه وجنوده لتصرف الدولة اللبنانية، أو على أقل تقدير، لو كانت وجهته جنوبا حيث الحدود مع إسرائيل، لا شمالا وشرقا حيث يعيش اللبنانيون!
كذلك يستطيع لبنان التخلص من النظام الطائفى دون حروب أهلية لو اتفقت القيادات السياسية غير المتورطة فى الفساد على خلع غطاء الطائفية والمضى قدما فى اعتماد نظام الاقتراع الشعبى العام حتى لو على مرحلتين أو ثلاثة بشكل تدريجى، وإذا لم نجد مثل هؤلاء السياسيين، فليكن القرار لتوافق شعبى لبنانى على تغيير الدستور وعلى تفعيل أهم مادتين معطلتين فى اتفاق الطائف: (1) نزع سلاح كل الميليشيات والحركات والأحزاب، فلا سلاح سوى سلاح الدولة، و(2) إلغاء الطائفية السياسية!
***
تمر لبنان بظروف دقيقة، وتحتاج إلى الدعم الاقتصادى والطبى الفورى وهو ما قامت به بالفعل العديد من الدول العربية، والقوى الدولية أيضا، كذلك يجب الترحيب بأى مساعدات فرنسية طالما أن فرنسا ستلزم بإعادة الإعمار لمنطقة المرفأ وستكتفى بطرح الحلول السياسية دون إجبار أى طرف على القبول بها! لكن وبينما يضمد اللبنانيون جراحهم ويجففون دماء أبنائهم، ويزيلون آثار الخراب والدمار من شوارع بيروت وضواحيها، فلابد من توافر إرادة شعبية تتوافق على محاسبة المسئولين عن هذا الحادث البشع من كبيرهم لصغيرهم، والأهم أن يمضى الشعب اللبنانى قدما للتخلص من الطائفية السياسية وهى أول خطوات استقلال لبنان وسيادتها على أراضيها ومقدراتها بعيدا عن التدخلات الخارجية!
يا بيروت يا ست الدنيا..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved