حوران... عقدة التغيير

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 8 أغسطس 2021 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

لحوران خصوصياتها ولأهلها خصوصياتهم. أرضٌ ثرية بالمياه اشتهرت منذ العصور القديمة بزراعاتها ومثلت تاريخيا رئة دمشق ــ الشام الآرامية. أعطت إحدى حاضراتها – شهبا – أحد أباطرة روما المسمى حينها فيليب «العربى»، رمزا لاندماج العرب فى الحضارة الرومانية. ثم أضحت «الجابية» (أو «جابية الملوك»، مدينة نوى اليوم، التى يُعزى إليها «باب الجابية» أهم أبواب مدينة دمشق) عاصمة الغساسنة المسيحيين معتنقى مذهب الطبيعة الواحدة.
وعُرفَت بشعرائها الذين ليس أقلهم شهرة النابغة الذبيانى (زياد بن معاوية المشهور بمعلقاته) وعلقمة الفحل وحسان بن ثابت (شاعر الرسول لاحقا). وفى حوران حشد خالد بن الوليد جيوش المسلمين (وحلفائهم الغساسنة) فى تل الجموع لمعركة اليرموك. وإليها قَدِمَ الخليفة عمر بن الخطاب كى يَمنحَ وفد أهالى القدس عهدهم الشهير. واختارها معاوية بن أبى سفيان عاصمة له لأربع سنوات قبل أن يؤسس دولته الأموية فى دمشق. وفى الجابية وبرعاية الغساسنة عرفَت التحكيم على الخلافة الأموية لاختيار مروان بن الحكم بدلا من عبدالله بن الزبير بعد وفاة معاوية بن يزيد المبكرة.
وفى سهول حوران ــ وخاصة فى مزيريب ــ كان يتم تجمع قوافل الحج السنوية مما مَنَح دمشق لقب «شام شريف». وإلى جبلها – جبل حوران – لجأ دروز لبنان اليمنيون بعد معركة عين دارة التى انتصر فيها القيسيون، كى يسمى بعدها جبل الدروز أو جبل العرب. ومن السهل والجبل انطلقت الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسى.
•••
لا بداوة فى حوران، ولكن انتماءات عشائرية ما زالت راسخة وهوية عربية متجذرة. انتظموا فى الأحزاب الجديدة فى منتصف القرن العشرين، وخاصة حزب البعث. فباتت حوران أحد معاقل البعث إلى أن خسرتها السلطة القائمة فى سوريا فى بداية 2011 بعد حادثة تعذيب فتيان قُصَر وإهانة وجهاء. هكذا كانت حوران أول منطقة سورية تكتسب حرية تأملت بانتشارها فى كل البلاد. وبعد عسكرة «الثورة» وتحولها إلى حربٍ أهلية، عمل القمع الأعمى وسلوك القوى الخارجية على دفع أهل حوران نحو التجمع فى تنظيمات بعضها شديدة التطرف، بما فيها جبهة النصرة وداعش، التى تمركزت الأخيرة فى جيبٍ جنوبى على الحدود مع الجولان المحتل.
أهل حوران بعيدون بالفطرة عن التطرف الدينى. بينما انتشرت تاريخيا الطرق الصوفية بينهم، القادرية والرفاعية وغيرهما. وأهل حوران بينهم شيعة ومسيحيون. هكذا عانوا من قمع السلطة وتفلت فكر الإسلام السياسى وماله وسلاحه (خصوصا عبر سرور زين العابدين عضو «الطليعة المقاتلة» السابق الذى تحول نحو السلفية الجهادية) ومن ورائه بين 2012 و2017، وكذلك تكاثرت ألاعيب الإسرائيليين الذين ما زالوا يطمعون فى مساحة كبيرة من أراضى حوران اشتراها البارون روتشيلد فى أواخر القرن التاسع عشر من الدولة العثمانية ليقيم مستوطنة «تيفارة بنيامين» لوهلةٍ من الزمن، وقبل أن تخضع هذه الأرض للإصلاح الزراعى.
بالمقابل، استطاع أهل حوران إلى حدٍ ما تحييد كل ذلك قبل القيام بمصالحات جماعية برعاية روسيا الاتحادية عام 2018. فى هذا السياق توقف تدفق المساعدات من الاتحاد الأوروبى والولايات، وعانى اقتصاد المنطقة من التخريب نتيجة الإغلاق مع الأردن والخليج كما بفعل العقوبات الخارجية والانهيار الاقتصادى العام فى سوريا ولبنان. وبالإضافة إلى الضائقة الاقتصادية الخانقة، استخدم كُثُر الخلافات وتنافس أمراء الحرب بين سهل حوران وجبل العرب، وبينهما وبين أهل البادية. بالتوازى قامت قوى تابعة لإيران بمحاولة التموضع مقابل خطوط التماس مع الجولان المحتل، وكأن الصراع مع الاحتلال يُمكن أن يحصل دون تبنى الأهالى لنهج «المقاومة».
•••
على مثل هذه الخلفية، وفى مثل هذا السياق المجتمعى، انفجرت الأوضاع أخيرا فى حوران، فى معارك وحصار لا طائل لهما مع أهالى تم سحب الأسلحة الثقيلة منهم وتم تنظيم كثيرٍ من مقاتليهم المعارضين السابقين فى فصائل رديفة للجيش السورى وفى مناطق يعيش سكانها أصلا معاناة كبيرة. وفى حين يعود جزءٌ من هذا الانفجار للأوضاع الاقتصادية والمعيشية غير المحتملة، وصراعات أمراء الحرب على الطرفين، أثبتت السلطة مرة أخرى رعونتها كما ظهر بوضوح فى خطاب القسم الأخير لرئاسة الجمهورية. فمقابل عجز السلطة عن تأمين المقومات الدنيا للمعيشة كما الالتزام بالمصالحة وتحويلها إلى بداية إعادة لحمة مجتمعية، عمدت إلى اللجوء إلى لغة القوة: إن على كل السوريين الخضوع الكامل لإراداتها رغم كل ما حصل. ودخلت فى الوقت ذاته فى استفزازٍ لروسيا الاتحادية، حليفتها، لجعلها مسئولة عن النكوص بالعهود ولإحياء اللعبة الدولية فى منطقة شديدة الحساسية.
مثل هذا التصعيد فى حوران قد تكون له تداعيات على مجمل الاستعصاء السورى. فهذه المنطقة وإن تم إخضاعها رمزيا لسلطة الدولة السورية على عكس الشمالين الشرقى والغربى، ولا تلقى دعما مباشرا من قوة خارجية مثل الولايات المتحدة أو تركيا، فهى تبقى رمزا لهذا الاستعصاء. صحيحٌ أن كُثرا من أبنائها ما زالوا يلعبون دورا أساسيا فى الدولة السورية ويلتزمون بغطاء مؤسساتها كدولة، إلا أن الكثير الآخر يعتبرون أن السلطة القائمة لا تلتزم بما تعنيه واجبات الدولة، ولم ولن تحترم كرامتهم وتحنث بعهودها ومواثيقها وبالتالى يؤكدون على وجوب تغييرها.
كذلك يواجه «الضامن الروسى» فى حوران تحديا كبيرا، خاصة لناحية التعامل الواقعى مع الأهالى والدولة وكذلك السلطة، لترسيخ أسسٍ يُمكن أن تفتح مجالا لتفاوضٍ سياسى على التغيير، أو على الأقل على تغيير السلوك كما بات شائعا فى مقولات المحافل الدولية، بعيدا عن حدة مقومات التفاوض وواقعه مع الشمالين الشرقى والغربى. أسسٌ أهم مقوماتها إعادة توحيد المجتمع السورى وكذلك إعادة توحيد مؤسسات الدولة وخاصة الجيش السورى ليكون درعا لكل المجتمع وليس لسلطة ضد المجتمع أو لفئة ضد أخرى.
من هنا، لا معنى أن تقبل روسيا بحصار درعا البلد ومناطق أخرى فى حوران فى حين أنها سعت فى قرار مجلس الأمن الأخير لفتح المعابر الداخلية بين جميع المناطق السورية، وذلك بالتوافق مع الولايات المتحدة. ولا معنى أن تقبل روسيا أن يذهب هباء كل الجهد الذى بذلته لتنظيم المقاتلين المعارضين فى فيلقٍ رديفٍ للجيش السورى لتعبث الميليشيات المتناحرة فى أمن ومعيشة السكان.
يبقى التحدى الأكبر هو ذلك الذى يواجهه السوريون أنفسهم. فما سوريا ما بعد الحرب التى ينشدونها؟ وما أسس العقد الاجتماعى الجديد الذى يطمحون إليه؟ وكيف يتم بناء هذا العقد فعليا عبر التضامن بين أبناء المناطق المختلفة مما يتجاوز رعونة السلطة وألاعيب الخارج؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved