«راده» والمطر

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 8 سبتمبر 2012 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

تراها منحنية طوال النهار، لا تفرد ظهرها سوى لساعات قصيرة عندما تمهلها الطبيعة بعضا من الوقت لالتقاط أنفاسها... الرياح الموسمية تضرب ولاية كيرالا بجنوب الهند، كما هى العادة فى الفترة ما بين يونيو وسبتمبر، وتعصف بالأشجار، فيزداد عدد الأوراق المتساقطة على الأرض، وبالتالى يزداد عملها مشقة... لكنها لا تكل ولا تمل، مع ابتسامة راقية تطلقها من وقت لآخر، وبعض الكلمات التى تغمغم بها وهى تنظر إلى الأرض، دون أن توجه حديثها لأحد... فمهمتها أن تأتى يوميا، من الصباح الباكر إلى هذا المشفى الذى يبعد بضعة كيلومترات عن بيتها لكى تلم أوراق الأشجار الذابلة وتنقى الحشائش...

 

ويستمر هذا المشهد تقريبا من السادسة صباحا وحتى غروب الشمس. فيها ما يوحى بأناقة عفوية، شعرها الفضى مشدود إلى أعلى فيما يشبه «شينيون» جميلات السينما زمان.. وعلى وجهها مسحة حزن ومسحة جمال، لذا لقبتها «بالكونيسة الحافية»، قبل أن استكشف اسمها، فهى لا تتحدث الإنجليزية ولا العربية، كالعديد من أبناء المنطقة بالقرب من مدينة تريشور الهندية والذين يعملون فى هذا المكان المخصص للعلاج والاستجمام بواسطة التدليك وخليط من الزيوت الدافئة. بعد مفاوضات صامتة، نطقت ببطء «راده» (Radah) أو كما يكتبها البعض بالعربية «رادها».. فهى تحمل اسم حبيبة الإله كريشنا المفضلة وصديقة طفولته، تظهر إلى جواره فى العديد من الرسوم الخاصة بالطائفة الهندوسية والمعابد، وهو عادة ما يتم تصويره على هيئة راعى يعزف الناى أو أمير يقدم توجيهات فلسفية.

 

•••

 

لا يمكن أن تغضب «رادا» ــ السيدة الكادحة ــ من الطبيعة، بل على العكس هى فى حالة تصالح دائم معها... فبخلاف واقع أن 80% من أمطار الهند تهطل بفعل الرياح الموسمية وأن نصف محاصيل البلاد يأتى من المحاصيل المزروعة فى هذه الفترة من السنة، لكن «رادا» أيضا تعتبر نفسها جزءا لا يتجزأ من الكون الواسع والأشمل... حالاته تنعكس عليها وتترجم فى صورة أحاسيس وأمراض قد تعتريها، كما هو شائع فى الفلسفة الهندية وبالتالى فى الطب التقليدى لديهم المعروف تحت مسمى «الأيروفيدا». والكلمة، كما يبدو تنقسم إلى شقين (العلم أوayer ) و( veda أو الحياة )، فيكون المعنى هو «علم الحياة» أو المقابل للفظة «بيولوجى» باللاتينية. هذه الطريقة فى التداوى التى يرجعها البعض لحوالى 5 آلاف وأحيانا 10 آلاف سنة لا تعالج المرض بل المريض، فبالنسبة لمتخصصيها المرض هو نوع من الخلل فى الهارمونى، ويمكن تجاوزه بمساعدة الشخص على استعادة توازنه وتحقيق نوعا من التكافئ بين مكوناته المختلفة: هواء، نار، مياه،أرض، أثير أو فضاء... وبالتالى ينقسم البشر، وفقا لهذه المدرسة فى التفكير، إلى أنماط ثلاثة أو «أمزجة» كما يطلق عليها حرفيا: ــ كافا (مياه+ أرض) ــ فاتا ( هواء وأثير). ــ بيتا ( نار ومياه).. الفئة الأولى مثلا يتسم أصحابها بالصبر وحب التملك والقوة، الفئة الثانية مثلا لديهم القدرة على الإبداع ويتصفون بالعصبية والرشاقة،... وهكذا يتم تصنيف البشر وفقا لخصائصهم الجسمانية والشكلية والنفسية.

 

لذا فأول شىء يتم عمله عند دخولك لمثل هذه الأماكن المتخصصة التى انتشرت فى أماكن مختلفة من العالم ولم تعد قاصرة على الهند، تخضع لفحص شامل وغير تقليدى.. فتشعر وكأنك حصان يسعى الطبيب لمعرفة سنه وأصله وفصله بالنظر لأسنانه وفحص درجة بياض العين أو إحمراها، وشكل الأظافر، ولون الجلد، وضغط الدم... قبل أن يكشف لأى «مزاج» تنتمى، وبالتالى يحدد نوعية البرنامج الذى ستخضع له، من ممارسة يوجا إلى طبيعة الغذاء وعدد مرات «المساج» واسم الزيت المناسب لك. ورغم أن هذا النوع من الطب البديل قد تم منعه من قبل قوات الاحتلال البريطانية، إلا أنه عاد للظهور بعد حصول الهند على استقلالها وأصبح يوفر العديد من احتياجات المواطنين الصحية جنبا إلى جنب مع الطب الغربى، فقوة التقاليد والمعتقدات تكون أحيانا أقوى من أى منع... تماما كما حدث مع التراتبية الاجتماعية الصارمة داخل المجتمع الهندى التى ألغاها دستور 1947، إلا انها ظلت موجودة بشكل أو بآخر واتخذت صورا يمكن ملاحظتها فى التعاملات اليومية. فالسيدة «راده» وزملاؤها من العاملين فى المنتجع الصحى تكفيهم نظرة من الطبيب المعالج لتلبية الأوامر، دون تبرم أو مجادلة، وفى هدوء تام.

 

 

 

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved