المقايضة

امال قرامى
امال قرامى

آخر تحديث: الثلاثاء 8 سبتمبر 2015 - 7:15 ص بتوقيت القاهرة

انشغل التونسيون منذ أسابيع بقانون المصالحة الاقتصادية الذى عرضه رئيس الجمهورية.. فهمه البعض على أنّه تمكين للفلول من العودة إلى المشهد السياسى وضرب لأهداف الثورة فى العمق وأوّله البعض الآخر على أنّه تجاوز لصلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة فى حين برّرته الرئاسة على أنّه وسيلة لتحقيق الاستقرار السياسى والاقتصادى. وبالرغم من كثرة المتطوعين لتحليل هذا القانون وبيان وجاهة طرحه باعتبار أنّه يمثّل سبيل النجاة لبلاد تمرّ بأزمة اقتصادية خانقة فإنّ أحزابا عدّة معارضة أكّدت على رفضها لهذا القانون ورأت فيه ردّة حقيقية وانتقلت من الاحتجاج الكلامى إلى الاحتجاج الفعلى عبر عديد المبادرات.

أمّا تحركات فئة من المواطنين فإنّها لم تتجاوز التعبير عن الغضب والإحباط عبر وسائل التواصل الاجتماعى فوجدنا حملات «لن أسامح». وبقطع النظر عن أشكال التعبير عن المواقف السياسية فإنّ تناول هذا المشروع يمرّ عبر مناظير عدّة منها السياسى والقانونى والاقتصادى والأمنى فضلا عن القيمى. فعلى الصعيد السياسى نتبيّن أنّ قانون المصالحة يتعامل مع المفسدين زمن بن علىّ تعاملا يحافظ على امتيازاتهم الطبقية فيجعل تسديد الأموال كافيا للسماح لهم بالعودة إلى العمل متجاهلا انعكاسات هذه العودة على أخلاقيات فرضها المسار الثورى وعلى المسار الانتقالى ككلّ. وإذا نظرنا إلى الصعيد الاقتصادى تبيّن لنا الذين يتصورون أنّ نهوض الاقتصاد التونسى متوقّف على عودة رجال الأعمال يتجاهلون أهميّة إرساء المساءلة والمحاسبة والحوكمة الرشيدة والشفافية، وضرورة القطع مع الإفلات من العقاب، وأهميّة بناء مناخ مبنى على الثقة وعلى الحرص الشديد على الحدّ من ظاهرة الفساد التى تنخر اقتصاد البلاد منذ الثورة.

وبالعودة إلى الجانب التشريعى نلاحظ أنّ قانون المصلحة يتجاهل الركائز التى قام عليها الدستور الجديد ولا يقيم وزنا للهيئة الدستورية التى تأسست ونعنى بذلك هيئة الحقيقة والكرامة (بقطع النظر عن الانتقادات الموجهة إلى رئيستها). فقانون المصالحة يستبق المراحل ويعفى المفسدين قبل معرفة الحقيقة ولا يعير وزنا لمبدأ الشفافية، إذ كيف للمواطنين أن يطلعوا على المسالك التى كان يعتمدها رجال الأعمال للتمتع بجملة من الامتيازات التى سمحت لهم بتحصيل الثروات على حساب الشعب.

***

وعلاوة على ما سبق سيكون قانون المصالحة حجرة عثرة أمام الجهود المبذولة للحدّ من خطر الإرهاب مادام الإفلات من العقاب صار مبرّرا. وإذا علمنا الصلة الوثيقة بين التهريب والإرهاب تأكّد لنا أنّ عددا من زعماء التهريب لن يعيروا وزنا للقانون مادامت المصالحة تضعف من تصوّر المواطنين لدولة القانون والمؤسسات.

يحاول البعض أن يبرّر هذه المبادرة على أساس أنّها ستكون وفق ضمانات فهى ليست مصالحة آلية بل مشروطة كما أنّها لن تمس من صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة باعتبار أنّها متعلقة بقضايا المال العام وقد روعى وجود عضوين فى لجنة التحقيق المنصوص عليها فى المشروع الجديد يُضاف إلى ذلك أنّ المشروع لا يوقف «التتبعات» ضدّ المتهمين بالرشوة والفساد فى الوظيفة العمومية. ولكن للمسألة أبعاد أعمق إذ أنّها تشير إلى طريقة إدارة الشأن السياسى إذ تمّ تقديم قانون المصالحة من أعلى الهرم إلى القاعدة وعلى أنّه قدر التونسيين وليس لهم من خيار إلاّ قبوله وهذه الطريقة تذكّر بممارسات سابقة كان يعتمدها نظام بن علىّ، وإن أخرجت هذه المرّة فى لبوس جديد يدّعى التشاركية. كما أنّ طريقة التعامل مع قانون المصالحة تكشف النقاب عن التوازنات السياسية بين حزب النداء وحزب النهضة ففى مقابل الترويج لقانون المصالحة، وهو ما تفعله النهضة، هناك اتفاق ضمنى على قبول «التائبين» أى الذين انخرطوا فى القتال فى بلاد الشام ورغبوا فى العودة إلى تونس. وبين الصنف الأول من الفاسدين والصنف الثانى من المفسدين وشائج، فالكلّ عبث بمصلحة البلاد وألحق بالعباد أضرارا جساما وخان الوطن. وبين قيادى الحزب الأول والحزب الثانى صلات جامعة، وهى البراجماتية الفجّة المخيّبة لآمال جيل من الشباب الذين حلموا بغد أفضل وصدّقوا إمكانية تحقيق تغيير جوهرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved