صلاح عبدالصبور فى ذكراه

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: السبت 8 سبتمبر 2018 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

يُحمد للشروق عنايتها بذكرى شاعرنا الفذ، الأستاذ الكبير صلاح عبدالصبور.. للراحل العظيم مكانة فى الشعر والأدب، لا يحجبها نكران ولا تجاهل ولا جدار.. ربطتنى به وبأسرته صداقة دافئة، فعرفت فيه الإنسان الذى كانت موهبته الفذة فرعًا على إنسانيته، واهتمامه بقضايا الإنسان.
كان الطائر الغريد شاعرًا بالسليقة، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ولم يكن حسبه أنه شاعر فذ، وإنما كان أيضًا مثقفًا كبيرًا.. لم يستقصر الطريق كما فعل ويفعل من يتعاطون الشعر بلا ثقافة ولا معرفة، ويظنون أنه محض رصف كلمات بليغة، أو التوارى وراء الإبهام غير المفهوم، لأنه لغو ملفوف بعبارات وألفاظ، غابت عنها المعانى، ناهيك بغياب الموهبة الأصيلة.
الواقع أن العناية اليوم بذكرى صلاح عبدالصبور، قد أتت محمودة تزيح ما تراكم من عدم الوفاء لهذا الشاعر الكبير، صاحب الأثر الممتد، وأحد رموز الشعر العربى بعامة، ومؤسسى الحركة الشعرية الحديثة بخاصة.
صلاح عبدالصبور شاعر كبير من طراز خاص، لم يكن مجرد موهبة شعرية تقرض نظمًا، وإنما كان صاحب موقف عميق من الحياة، ورؤية ثاقبة، وثقافة عريضة خاضت كل البحور، وتجلت فى أشعاره، وفى مسرحياته الشعرية التى كان له ريادة ملموسة فيها.
لصلاح عبدالصبور خمس مسرحيات شعرية شفت عن عبقرية فكرية مغموسة فى أحضان الشعر، ومهمومة بقضايا الإنسان والإنسانية.
مأساة الحلاج (1964)، مسافرليل (1969)، الأميرة تنتظر
(1969)، ليلى والمجنون (1970)، بعد أن يموت الملك
(1975).
لم تفقد أى من مسرحياته الشعرية، بناءها الدرامى، ولم تعصه موهبته فى صياغة هذا البناء شعرًا عَبَّرَ عن إحساس مرهف، وموهبة فذة.
انظر مثلا إلى إيقاع نظم الكلمات فى مسرحية «مأساة الحلاج».
تقول المجموعة التى وقفت تتابع مشهد الصلب:
« نحن القتلة. قتلناه بالكلمات.. أحببنا كلماته أكثر مما أحببناه. فتركناه يموت لكى تبقى الكلمات. أنفذنا ما أوصانا به. كنا نلقاه بظهر السوق. عطاشى فيروينا من ماء الكلمات. جوعى فيطعمنا من أثمار الحكمة، وينادينا بكئوس الشوق إلى العرس النورانى».
للطائر الغريد ستة دواوين شعرية متميزة، ذات نكهة خاصة، ومذاق خاص، تروى مسيرة فجّرت هذه الموهبة لتصوغ هذه الأشعار.
الناس فى بلادى (1957)، أقول لكم (1961)، أحلام الفارس القديم (1964)، تأملات فى زمن جريح (1970)، شجر الليل
(1973)، الإبحار فى الذاكرة (1977) قبل أربع سنوات من وفاته صريعًا بعبارات طائشة فى 13 أغسطس 1981.
لم يقتصر رصيد الطائر الغريد على هذه الأشعار، فكتب فى الثقافة والأدب، والاجتماع، والحكمة، والفلسفة، والصوفية.. فكانت هذه الكتابات فى مدينة العشق والحكمة، مع أشعاره المتميزة، وترجماته الرفيعة إلى العربية ـ كانت صدى لثقافة متنوعة عريضة واسعة، تجلت حتى فى قصائده الغنائية التى جاءت مشبعة بفكر فلسفى وتأملات عميقة، مغموسة بحزن لم يفارقه قط فى أى مرحلة من مراحل إبداعه، هذا الإبداع الذى صاغ به أشعاره فى سبيكة شعرية نادرة، انصهرت فيها موهبته مع ثقافته العريضة ورؤيته الثاقبة الذاتية، وقلبه الواجف على بلاده، وعلى الإنسان.
من مؤلفاته الفكرية والأدبية: قصة «النساء حين يتحطمن»، وكتبه: «وتبقى الكلمة»، «على مشارف الخمسين»، «حياتى فى الشعر»، «فى مدينة العشق والحكمة»،
«أصوات العصر»، «ماذا يبقى منهم للتاريخ: طه حسين والعقاد والحكيم والمازنى».
«رحلة الضمير المصرى»، «حتى نقهر الموت»، «قراءة جديدة لشعرنا القديم».
«رحلة على الورق».. فضلا عن ترجماته إلى العربية: «سيد البنائين ـ لهنريك إبسن».
(1957)، «حفل كوكتيل» لإليوت (1964)، «برمان» للوريكا بالاشتراك مع وحيد النقاش (1964).
قال عن جيل الرواد الذين سبقوا، إنهم ثمرة الزواج الواعى بين الثقافة العربية، والثقافة الأوروبية فى القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، واستطاع هذا الجليل بخصائصه الذاتية أن يحمل مصباح الفكر ويصحح مفاهيم الأدب والفن، ويؤكد أن الأدب تعبير وجدانى عن الحياة والإنسان، لا مجرد زينة بلاغية أو زركشة لغوية.
من على أعتاب جيل الروّاد الذين تلقى عنهم، وقف صلاح عبدالصبور متأملا قبل أن يتناول «أدب الشباب».. ويثير بحوثا تدور حول الفرق بين التقليد وتجديد المجددين. توقف صلاح عبدالصبور ليلفت إلى أن طابع الحياة قد تغير فى عصرنا عمّا سبقه، فانهدمت الثنائيات التقليدية، كثنائية العقل والخيال أو الروح والمادة أو المنطق والحدس، وأن الأدب الأوروبى لم يعد هو الأدب ولا عادت منابعه هى المنابع التى عرفها طه حسين والعقاد، ولا عاد المسرح الذى افتتن به توفيق الحكيم فى إقامته الأولى فى فرنسا، هو ذات المسرح الذى اعتبره الحكيم مسرحًا حديثًا، وإنما صار مسرحًا كلاسيكيًّا بالنظر إلى ما ورد عليه.. فإذا كان جيل الروّاد قد تفطن لما كان مطروحًا فى أوروبا فى عصره.. فإن هذه المتغيرات تضع علينا واجب الالتفات إلى هذه القامات الحقيقية، والزاد الرفيع الذى قدمته، وعبء مواجهة شمس الفكر المتجددة، لنستمد من لهيبها وضوئها ما يجعلنا جديرين بالتواصل مع الإنسانية فى معناها الكبير.
بقى أن أقول لكم دلالةً على معدنه، أن معركته الحامية هو وصديقه الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى مع العقاد حول الشعر الحديث، قد دفعته إلى كتابة سلسلة مقالات انجرف بعضها إلى شدة أشد مما عتب فيه على العقاد موقفه من أحمد شوقى، نشر آخرها بالأهرام فى 14 فبراير 1964، وإذ بالعقاد يلاقى ربه بعد أيام فى 13 مارس 1964، فنفض صلاح عبدالصبور عن نفسه وقلبه غبار المعركة، وكتب مقالا للأهرام قبل مضى أسبوع على رحيله، ونشر فى 20 مارس، أبكتنى سطوره، كتب فى مطلعه يقول
«انتهت الرحلة المجيدة إلى غايتها المرصودة، وعاشت نفحة من شمس أسوان ونورها لترقد حيث بدأت رحلتها بعد أن استوت فكرًا أنار البصائر وكشف الظلمات، وملأ الدنيا ومشى فى نوره الناس.. رحلة مجيدة استغرقت عشرات السنين لذلك الفتى العالى النفس، المتطلع إلى المعرفة، أفسح لنفسه بيديه، وبيديه وحدها أمضى حياته محاربًا صلبًا، هو فارس الكلمة، وخواض بحر المعرفة، وكم جابه من الأخطار، وشق البحار المتلاطمة الموج، منتقلا من جزيرة إلى أخرى من جزر المعرفة، حتى أدنت به السفينة إلى شاطئ السكينة فوجد شمس أسوان تنتظره ليعود فيرقد فى أحضانها».
مضى صلاح فوضع العقاد فى المكانة السامقة المستحقة التى يعرفها له.
هذا هو صلاح عبدالصبور، الشاعر الفذ، والإنسان الكبير.

Email: rattia2@hotmail.com
www.ragai2009.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved