فى قطار السنوات أقفز بين قاطرتين

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 8 سبتمبر 2021 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

أن يدخل أحد والديك فى مرحلة صحية حرجة يفتح بابا غير متوقع من القلق. هو قلق غير متوقع رغم علمنا الوثيق أن التقدم بالعمر قد يرافقه تدهور سريع أو تعقيدات غير متوقعة فى الصحة، هذا متوقع وأظن أننا عموما واعون أن التقدم بالعمر يحمل فى طياته بعض التأخر فى الصحة. لكن أن يواجه أحد الوالدين وعكة صحية يعنى أن أتخيل نفسى أقف عند باب غرفة تدخلها أشعة الشمس من خلال ستارة رقيقة وأنا أسترق النظر إلى الجد المريض وإلى أولاده يقفون من حوله فى أيام قد تكون أيامه الأخيرة.
***
كنت طفلة حين توفى جدى ولا أذكر كثيرا مما رافق رحيله أو أعقبه من طقوس الحزن والعزاء فى بيته. أذكر خيالات عن والدى وعماتى وعمى وأعترف أننى لم أفكر بالموضوع كثيرا منذ رحل. إنما كان أسبوع مرض فيه والدى كفيلا بأن يرمينى عند مدخل تلك الغرفة وأنا فى أعوامى الأولى أحاول أن أفهم ما يقوله كبار العائلة وأحاول فى الوقت ذاته أن ألتصق بالحائط حتى لا يرونى.
***
فى الأسبوع الماضى وحتى اطمأننت على صحة والدى، أسقطت على أطفالى الثلاثة ما شعرت به حين مرض جدى: شخص رقيق ناعم يدللنى انسحب من الفضاء من حولى بكل أناقة بعد عدة سنوات من المرض. حاولت أن أسترجع علاقتى بجدى وذكرياتى عنه فوجدت أننى لا أتذكر مرحلة مرضه وتأثيرها على أولاده، ومن بينهم والدى، إنما أتذكر كلامه معى وكيف كان يقسم كعكة بالسمسم يشتريها من فرن قريب من بيته ليعطينى قطعة.
***
أظن أن علاقة الطفل بالجد والجدة مجردة تماما من علاقة أهله بهم، أى أن سلاسة أو إشكالية العلاقة بين الوالدين ووالديهما، أى الأجداد، لا تحدد علاقة الطفل بهم. هناك خيط سحرى يربط الأطفال بالأجداد، شىء فى الأجداد يبهر الأحفاد ويجذبهم إلى أهل أهلهم وكأنهم (أى الأطفال) لديهم من يلجأون إليه إن جار عليهم والداهم. «سوف أخبر جدو عما تقولينه»، نعم فالأطفال يهددون بأن يشتكوا لولى أمرى!
***
بيت الجد مكان لا تسرى فيه قواعد بيت الأهل. قد تسرى فيه قواعد مختلفة لا تقل صرامة عن بيت الأهل إنما لا تثير نفس الشعور بالحنق عند الأطفال. بيت الجد تسقط فيه القواعد عموما، بين رغبة الجد والجدة بالتحبب إلى الأطفال وبين تخليهما هم أصلا عن قواعد كانوا يفرضونها على أولادهم (أى علينا!) وبين قلة صبرهما على التعليمات التى يعطيها الأهل (كما أعطيها أنا لوالدى حين يمضى أولادى وقتا فى بيت الجد). بيت الجد مكان يسمح فيه باللعب وأكل الحلويات والسهر والتلفزيون. هو مكان قد يكون الوحيد الذى لا أبسط فيها سيطرتى على ما حولى وأجد نفسى أجلس قرب أطفالى على الكنبة تعطينى أمى حلوى كما تعطيهم، تأخذ من يدى الطبق وتنهرنا جميعا فلم يعد أحد منا طبقه إلى المطبخ.
***
فى بيت الجد تختلط الأدوار فنصبح أنا وأطفالى فريقا، وأنا وأمى فريقا فى الوقت ذاته. هكذا أدخل وأخرج من أبواب منزلقة كمن يقفز داخل وخارج القطار، هو قطار الزمن يشق السماء باتجاه واحد لا يمكن تغييره، يمشى مع السنوات ويسابقها وأنا أقفز فى كل مرة إلى قاطرة فى آخر القطار على أمل أن أطيل مدة الرحلة وأمد السنوات. قطار السنوات يحمل على ظهره بيت الجد والجدة وفى قاطراته ثلاثة أجيال. وأنا أتنقل بين القاطرات كأننى فاصلة بين جملتين، صلة وصل بين حياتين، لى قدم فى جيل أمى وقدم فى فريق أولادى.
***
حين تعب والدى بحثت عن قبضة الطوارئ التى يجب سحبها إن تعرض القطار لخطر بهدف إنذار السائق أن ثمة مشكلة يجب أن يوقف بسببها الرحلة. كانت أيام عدت فيها طفلة ولم أقل لأطفالى أن صحة جدهم فى خطر. تخيلتهم كما كنت أقف عند باب غرفة جدى أحاول فهم همسات تصلنى ولا أفهم شيئا. وجدت قبضة الطوارئ لكنى فهمت أنها لا توقف قطار الزمن ولا تبطئ من اندفاعه. هى فقط تستخدم لإنذار الركاب أنهم فى مواجهة الخطر، تماما كما شعرت عند تلقى اتصال من أخى حول حالة والدى. تحسن الجد وتنفست الصعداء وفهمت أن سكة الحديد ما تزال سالكة! عدت وجلست فى قاطرتى أراقب خط السير من الشباك وأتحدث مع أطفالى.

***
أظن أن دور «الفاصلة» بين جيلين يحمل مشاعر متناقضة بين القدرة على اتخاذ قرارات وبين الشعور التام بالعجز. دور «الفاصلة» يعنى التنقل الدائم بين قاطرتين، إحداهما أكون فيها الابنة وفى الثانية أكون الأم. ومع قفزة أنظر إلى الأسفل حيث قد أقع فيمشى القطار من فوقى لكن ها هم ركاب الحافلتين يمسكونى فلا أقع. ويشق القطار السماء باتجاه سنوات تجرى ولا أستطيع إيقافه.

كاتبة سورية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved