فى أحوال «الدولة العاجزة» و«الشباب المتحمس»

سامح فوزي
سامح فوزي

آخر تحديث: السبت 8 أكتوبر 2011 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

يمثل حادث كنيسة المريناب بمحافظة أسوان إحدى حلقات مسلسل طائفى مستمر، أصاب المراقبون بالملل، لا يجدون فيه جديدا يقولونه. حديث المساواة، دولة القانون، التسامح، الفتنة الطائفية، المواطنة.. الخ صار من قبيل التكرار، والاجترار الذى لم يعد يشفى غليل أحد، أو يجيب عن تساؤلات ملحة. فى السابق كان اللوم يوجه إلى نظام مبارك وجهازه الأمنى حينا وإلى الشرذمة المتعصبة أحيانا. وفى الفترة الأولى التى أعقبت ثورة 25 يناير اتجهت أصابع الاتهام إلى ما أطلق عليه «فلول النظام السابق» حينا وإلى بعض التيارات الإسلامية المتشددة أحيانا، دون إغفال الخطاب المتوارث عن القلة المتعصبة من الجانبين، والأصابع الخارجية. ولم يحدث فى أى مناسبة أن عرفت الشرذمة المتعصبة، أو جرى تحديد ماهية فلول النظام، أو رصدت الأصابع الخارجية التى تعبث بالوطن وأهله. هل نعيد إنتاج ذلك الخطاب الممل مرة أخرى؟

 

(1)

لا يختلف حادث كنيسة «المريناب» عن هدم كنيسة «صول»، أو حرق كنيسة «إمبابة» أو نقل كنيسة أخرى من مكانها فى «المنيا»، أو التحرش بأخرى فى «سوهاج». جميع هذه الأحداث وقعت بعد ثورة 25 يناير. يقال إن محافظ أسوان لم يحسن التعامل مع الحادث، وهل غيره أحسن التعامل مع أحداث شبيهة؟ يتردد أن إمام مسجد ــ وهذا كلام المحافظ بالمناسبة ــ حرض الشباب عقب صلاة الجمعة، وهل جديد علينا أن نسمع أن داعية دينيا يحرض الناس على الإساءة إلى كنيسة أو إلى المواطنين الأقباط؟ يشاع أن مسئولا أمنيا حرض الناس أو وقف متفرجا أثناء هدم الكنيسة ــ التى يطلق عليها المحافظ مضيفة ــ وهل غريب أن يحدث ذلك؟ ألم يحدث فى مرات سابقة هدم أو حرق كنيسة أو استهداف الأقباط وممتلكاتهم وسط تواطؤ أو على الأقل تلكؤ أمنى؟ تتهم الحكومة بتهوين الحادث، وهل كانت يوما الحكومة تتحلى بالشفافية، ولا تهون من الأحداث الطائفية؟

 

 

لا يوجد ما يدعو إلى الاستغراب فى حادث كنيسة «المريناب»، أو الشعور بأن شيئا غريبا يحدث. ويخطئ من يظن أنه سيكون الحادث الأخير، فقد سبق أن وعدنا أنفسنا فى أحداث سابقة بأن يزول شبح الطائفية الجاثم على صدر المجتمع المصرى ولم يحدث ذلك. الذاكرة معبئة، والتقارير الحقوقية والتحقيقات الصحفية تعج بالوقائع، وفى الفم ماء كثير كما يقال.

 

(2)

الشيطان يكمن فى التفاصيل. الأقباط يحملون أوراقا عليها أختام تشير بأن لديهم تصريحا بكنيسة فى قرية «مريناب». وعلى الجانب الآخر يحتفظ محافظ أسوان بحالة من العناد التى تجعله يصر على أن المبنى مضيفة وليس كنيسة. وهل كون المبنى المتنازع عليه «مضيفة» يعنى أن هدمه وحرقه بيد الشباب ــ الذين وصفهم المحافظ بالمتحمسين ــ ليس جريمة؟ وهل عدم الحصول على التراخيص اللازمة ــ بافتراض حدوث ذلك ــ يبرر للناس هدم ما يشاءون من مبان؟ أم أن المحافظة ــ التى يمثلها المحافظ الهمام ــ هى التى تقوم بتطبيق القانون على أى مبنى مخالف؟ هل استقالت الدولة، ولجأت إلى اللجان الشعبية للقيام بإحدى وظائفها، مثلما اختفت لأيام الأجهزة الأمنية وتولى الناس حماية أنفسهم وممتلكاتهم فى أواخر شهر يناير الماضى؟

 

القضية ليست فى وجود تراخيص من عدمه، ولكن فى الموقف العاجز الذى تقف فيه الدولة المصرية. قوات الأمن التى تفض اعتصاما فى ميدان «التحرير» بالقوة، وتطارد المتظاهرين الأقباط أمام «ماسبيرو» تقف عاجزة أمام شباب ــ تعتبرهم متحمسين ــ يهدمون مبنى دون وجه حق بصرف النظر عن كنيته أو هوية أصحابه الدينية. الدولة التى ترخص لأحزاب تضم بقايا الحزب الوطنى المنحل، وتطبق قانون الطوارئ، وتفرض رقابتها على الإعلام، تعجز عن حماية كنيسة فى قرية بإدفو، مثلما لم تستطع أن تمنع سكان قرية صول «المتحمسين» من هدم كنيسة، وأبناء حى إمبابة «المتحمسين» من حرق أخرى.

 

(3)

لم يعد منطقيا أن نقول للأقباط اصمتوا، لأن غيرهم يتحدث بأعلى صوته. هم يذهبون إلى ماسبيرو، ويطاردون، وسائقو النقل العام يغلقون شارع «قصر العيني» دون أن يمسهم أحد. مدرسون، أطباء، عمال، أساتذة جامعات.. الكل يتظاهر بحثا عن حقوقه، ولماذا نطالبهم بالصمت؟. المشكلة الحقيقية أن مطالبهم لا تلبى. وعدهم رئيس الوزراء منذ بضعة أشهر بقانون موحد لبناء دور العبادة، وفتح الكنائس المغلقة، ولكن شيئا لم يحدث، حتى ما كان يفعله نظام مبارك فى السنوات الأخيرة من تعيين محافظ قبطى لم تستطع الحكومة الحفاظ عليه، كل ذلك ولا يزال الخطاب الرسمى كما هو متوارث من العهد السابق، لم تطله الثورة، أو تغير منطلقاته.

 

الحل سهل وميسور، يتمثل فى حزمة من السياسات العامة التى تحقق المساواة والعدالة بين كل مكونات المجتمع المصرى. قانون ينظم بناء الكنائس، واضح ومفهوم. لا يوجد به ألغاز أو يرهن ممارسة الأقباط لشعائرهم الدينية بموافقة جيرانهم من السكان المسلمين، ولكن بموافقة الدولة ذاتها التى تنظم شئون المجتمع. تطبيق صارم للقانون على حالات الاعتداء على الأرواح والممتلكات، لا يجعل من سلامة الأقباط وممتلكاتهم شأنا منفردا يقرره ضيقو الأفق، تساندهم فى ذلك حكومة لا تطبق القانون، وتلجأ دائما إلى الحلول العرفية التى تضع الضحية والجانى على مرتبة تفاوضية واحدة، وأكثر من ذلك تؤمن خروجا آمنا للجناة تاركين الضحية يجتر مرارة الهزيمة أولا ثم القهر ثانيا.

 

كفى حديثا عن المواطنة، الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية، وسياسات عامة تعزز المساواة، وقانون يحمى المواطنين وممتلكاتهم ودور العبادة الخاصة بهم. لا أظن أن الحكومة الحالية ستفعل شيئا مختلفا عما فعلته فى الشهور الماضية، أو فعلته سابقتها على مدى سنوات. تخشى الفتنة، ولا تفعل شيئا لمواجهتها، تتهم المؤامرات ولا تتصدى لها، تشكو التعصب وتجبن عن مواجهته.

 

(4)

لا يصح أن نغفل مسألة مهمة أن حادث كنيسة «مريناب» وقع وسط حالة تسخين طائفى لا تخطئها عين، مما يبعث على التفكير فى الدوافع وراء ذلك. تسليط الضوء على اتهام قيادة سلفية للأقباط بالكفر، ثم ترويج حديث مسجل مبتسر لمفتى الجمهورية يظهر فيه بمظهر من يهاجم الأقباط فى عقيدتهم، وتصدير حادث جنائى وقع بالإسكندرية بوصفه جريمة قتل فيها مسيحى مسلما، وتضخيم تحركات ساذجة يفعلها أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة فى المهجر بوصفها تعبيرا عن توجه قبطى يريد الانفصال والاستقلال، واستدعاء أصوات هامشية فى التيار الإسلامى للحديث عن فرض الجزية على الأقباط، وإعادتهم إلى الذمية. كل ذلك ينبئ بأن الملف الطائفى مرشح بقوة ليكون محورا للصراع المجتمعى فى الفترة المقبلة، ليس لذاته، ولكن ليكون تمهيدا للهندسة السياسية والقانونية الجديدة، والتى يراد للأقباط فيها أن يكونوا فى قلب محاولات ترويض الثورة كى ينشأ نظام سياسى يمثل امتدادا لسابقه فى توجهاته، وإن اختلف فى شخوصه. المحصلة النهائية أن الأقباط لا يزالون فى منطقة الصيد بين نظام سياسى قديم، يعيد تنظيم أوراقه وآخر يتشكل يشهد صعودا للإسلام السياسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved