محاولات لإنقاذ بعض اللغات الشرق أوسطية القديمة من الاندثار

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأربعاء 8 أكتوبر 2014 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

تعتبر اللغة من أكثر القدرات العالمية للإنسان، نظرا لدورها فى التواصل ونقل المعلومات والخبرات عبر الأجيال. إلا أن ما يقرب من نصف اللغات المحكية ــ والبالغ عددها نحو 7000 لغة ــ ستندثر مع نهاية القرن الحالى، بحسب أحدث التوقعات.

لا يوجد سبب واحد لانقراض اللغة. إلا أن بعض الأسباب الشائعة تدور حول هيمنة بعض اللغات مثل العربية والفرنسية والإنجليزية، والوصمات الاجتماعية التى تلحق باللغات الأقليات، وتعارضها مع الطرق التقليدية للحياة.

يقول اللغويون إن إنقاذ اللغات من الخطر يصب فى مصلحة الجنس البشرى. تقول ماندانا سيفيدنيبر مديرة برنامج توثيق اللغات المهددة بالانقراض فى جامعة SOAS للدراسات الشرقية والأفريقية فى لندن: «إن فقدان لغة يمكن أن يعنى فقدان ثقافة كاملة». مضيفة أنه قد تكون هناك علاجات لأمراض قد لا يعلم بها أحد بسبب وفاة آخر متكلم للغة قديمة، خاصة فى عدم وجود من يفهم النصوص التى تركوها وراءهم. «عندما تموت لغة فإننا لن نتمكن أبدا من معرفة ماذا كان يعرف هؤلاء الناس».

ويقول اللغويون إن العراق وسوريا قد زاد من الضغوط على اللغات المهددة بالانقراض. يقول لايل كامبل، مدير مشروع اللغات المهددة بالانقراض، «تُعرف اللغات المهددة بالانقراض بأن معظم ناطقيها من أقليات الشرق الأوسط. لكنهم اليوم إما يقتلون أو يتعرضون للقمع. تواجه بعض اللغات الشرقية خطر الانقراض خلال الستين سنة المقبلة.

وبحسب كامبل، فإن اللغة الأرامية الحديثة التى يتحدث بها سكان الموصل ومنطقة سهل نينوى فى العراق هى اللغة الأكثر عرضة للانقراض فى الشرق الأوسط حاليا. إذ إن نحو 2000 شخص من الناطقين بهذه اللغة يتعرضون لمعاناة كبيرة على أيدى عناصر الدولة الإسلامية. تعود جذور هذه اللغة إلى الآرامية، التى يقول بعض الخبراء إنها اللغة التى تحدث بها السيد المسيح وحكام المنطقة.

•••

لا يعنى وجود عدد قليل من السكان الناطقين بلغة ما أن هذه اللغة على وشك الانقراض. وتصنف منظمة كامبل عدد كبير من اللغات المهددة بالانقراض إلى أربع مجموعات فرعية: فى خطر، مهددة، معرضة لخطر الشديد و«حيوية غير معروفة».

بالإضافة إلى عدد من المتحدثين، يأخذ الباحثون بعين الاعتبار أيضا ما إذا كان عدد السكان آخذ فى الارتفاع أو الانخفاض وهل يتفاعل جيل الشباب مع اللغة الام. يعترف كامبل أن هذا لا يعتبر علما دقيقا حتى الأن نظرا لقلة البيانات المتوفرة «غالبا ما نعتمد التخمين، ولكن تلك المهددة بالانقراض فعلا تبرز أمامك».

•••

اللغات الموجودة فى الشرق الأوسط بعدد ناطقين أقل من 20 ألفا (مشروع اللغات المهددة بالانقراض) نسبيا، لا يعد العالم العربى من أكثر مناطق العالم فى التنوع اللغوى. تقول سيفيدنيبر: «اكتسحت اللغة العربية المنطقة على مر السنين وطغت على اللغات الأصغر».

تبدو مهمة الحفاظ على ما تبقى شاقة. إذ تقول سيفيدنيبر: «نحن نخوض معركة ضد الزمن».

يتفق زملاء سيفيدنيبر معها. يقول برونو هيرين، لغوى من المعهد الوطنى للغات الحضارات الشرقية فى باريس: «لديك لغات كبرى فى الشرق الأوسط: العربية، والتركية والكردية. ليس أكثر من ذلك».

تمنح بعض الحكومات فى المنطقة العربية صفة رسمية للغة العربية أكثر من غيرها من لغات الأقليات. لا تعترف المملكة العربية السعودية سوى بالعربية كلغة رسمية. يقول كامبل: «علينا أن نتظاهر بأن اللغات الأخرى هى لهجات مختلفة للعربية إذا أردنا أن نذهب هناك لدراستها».

يعمل هيرين على توثيق لغة الدومارى المهددة بالانقراض فى لبنان، وذلك من خلال منحة من القسم الذى تعمل به سيفيدنيبر. يوصف الناس الذين يتحدثون لغة الدومارى، المعروفة باسم دوم، بأنهم «غجر الشرق الأوسط». وبحسب هيرين «هناك وصمة عار كبيرة علقت بهم لمدة طويلة. لذلك يحاولون الحفاظ على اللغة بشكل خفى». مشيرا إلى أنه لا توجد علاقة عرقية أو لغوية مع غجر أوروبا.

إلا أن جهود مجتمعات الدوم غير المرئية، تجعل من المستحيل معرفة عدد المتحدثين بهذه اللغة فعليا. يقدر هيرين العدد بالآلاف وليس بالمئات.

فى عام 2009 وقبل بدء النزاع فى سوريا، كان هيرين فى زيارة صديق له فى حلب. حيث سمع عاملة التنظيف لدى صديقه تتحدث على الهاتف مع أحد أقاربها، لكنه لم يتمكن من التعرف على لهجة عربية فى حديثها. عندما سألها أجابته بأنها تتحدث الدومارى وليس العربية. عندها بدأ شغف هيرين بالدومارية. يقول: «يستطيع شخص من خارج المنطقة اكتشاف بسهولة أنها لا تتحدث العربية،» على الرغم من أن الدومارية اقتبست الكثير من اللغة العربية على مر السنين.

تعد الدومرى لغة هندية، نشأت فى شبه القارة الهندية. فى مرحلة ما من تاريخها، هاجر دوم من جنوب آسيا إلى الشرق الأوسط. منذ ذلك الحين، تم اعتبارهم بدو تجار كما يقول هيرين.

اليوم، يتواجد الدوم فى غرب سوريا ولبنان وجنوب تركيا. منذ بداية الحرب فى سوريا، كانوا ضحايا العنف من مختلف الفصائل، كما يقول هيرين، «ينظر إليهم على أنها غير مؤمنين من قبل بعض المتمردين. لا يتم اعتبارهم مسلمين رغم أنهم يُعرفون عن أنفسهم بكونهم مسلمين سنة».

هذا التمييز دفع الدوم إلى الهجرة إلى لبنان وتركيا.

•••

يهدد تحول الأقليات إلى لاجئين لغتهم، كما تقول سيفيدنيبر. ذلك أن الانفصال عن وطنهم ويعطل تقاليدهم وغالبا ما يدفع الأجيال الشابة للاهتمام أكثر بلغة البلد التى يعيشون بها. هذا يبدو بالتأكيد الحال مع الدومارى. يقول هرين «يفضل شباب الدوم استخدام العربية، علما بأن صغر المتحدثين بالدومارى يبلغون من العمر 30 عاما». متوقعا أن تنقرض هذه اللغة خلال 60 عاما المقبلة.

مما يزيد الأمور سوءا، أن لغة الدومارى ليس لها شكل مكتوب. يقول هيرين: «عندما يموت أخر دومارى سيبدو وكأن اللغة لم تكن موجودة أصلا. لذلك أسعى للتدخل».

تقوم مساعى إنقاذ اللغة من الاندثار على مستويين. الأول هو توثيق ووصف اللغة بحيث يتمكن اللغويين فى المستقبل من دراستها وتعريف الأجيال القادمة بها. بينما يقوم المستوى الثانى على التنشيط من خلال زيادة عدد المتحدثين بهذه اللغة. وهو الأمر الأكثر صعوبة لكونه يتطلب من الباحثين توفير السياق الثقافى والاجتماعى للمجتمعات لتكون ثنائية اللغة. وبحسب سيفيدنيبر فإن معدلات النجاح منخفضة تاريخيا.

يعترف كامبل بوجود صعوبات، لكن النجاحات السابقة قد تكون ملهمة. يقول «نرى المزيد والمزيد من النعى لغة. لكن ويلز فى المملكة المتحدة تعتبر قصة نجاح كبيرة، تثبت أنه يمكن القيام بذلك.

يستعد هيرين للقيام برحلة إلى لبنان فى أوائل 2015، حيث سيتشاور مع عدد من الناطقين بالدومارى. يأمل فى التوصل إلى وسيلة لتدوين اللغة فى الكتابة، والتى قد تساعد على وضع أساس لازدهار اللغة مجددا. يقول «قد يفضلون استخدام الحروف العربية عوضا عن الحروف اللاتينية. وهو الحل الأفضل لأنهم سيكونون قادرين على محو أميتهم بالعربية.

يأمل أيضا على تشجيع الأجيال الشابة على تعلم اللغة وإنتاج كتيب نحوى وقاموس وسائط متعددة.

ولمواجهة إحصائية سوداوية تتوقع اندثار نحو 3.500 لغة حول العالم، تصر سيفيدنيبر على أهمية جهود الحفاظ على اللغات الميتة حتى لو لم يتم النطق بها مجددا. تقول: «إن الطريقة التى نتكلم بها تحدد شكل التفكير. عندما تموت لغة نفقد حكمة مجتمع بأكمله. لماذا يبدو المتحف البريطانى مهم؟ لماذا تعتبر مؤسسة سميثسونيان مهما؟».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved