فأر كبير فى فراشى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

بلوزة ناصعة البياض وجونلة كحلى غامق وجورب سوكيت أبيض وحذاء جلدى أسود بكعب بسيط، يونيفورم المدرسة السنية يزيد عليه فى الشتاء بلوفر من لون الجونلة. أذكره ليس لأن ابنة جيرانى فى نفس المنزل كانت من تلميذات هذه المدرسة العتيدة ولكن لأننا، نحن تلاميذ مدرستى الخديوى إسماعيل والإبراهيمية من أبناء الحى، كنا نتناوب مرافقة بنات الجيران فى رحلتهن من المنازل إلى المدرسة الأشهر فى تلك الأيام. كانت تعليمات الأهل، أهلهن وأهلنا، للصبيان المرافقين والبنات ألا نسلك طريق الترام المزدحم بالباصات وعربات الخيل والرجال المتوجهين إلى مصالحهم الحكومية. كان الأهل جميعا يطمئنون إلى سلامة بناتهن وسلامتنا إذا سلكنا الطرق والحوارى الجانبية. «هناك، ولاد البلد عارفينكم ويخافوا عليكم وحيحرسوكم».
***
كنت موضع حسد رفاق الحى منذ دخلنا مرحلة المراهقة واكتشفوا كما اكتشفت أن جارتى هى الأجمل على بنات الحى المتقاربة أعمارهن. لم يلفت نظرنا، نحن الصبيان، بقدر ما لفت نظر أهلى تحديدا أن الطفلة بنت جيراننا هى الآن تتصدر بنات وأبناء عمرها طولا و«شبابا». أضف إلى كل ما سبق خفة ظلها وتمردها على المألوف فى سنها وانفتاحها السابق لأوانه على مجتمعات الصبيان. سمعت جارا تجاوز منتصف العمر يقول لزوجته «أتردد فى تنبيهها إلى تجاوز فى الملبس أو إلى كلمة تكثر من استخدامها وهى لا تصح إلا للذكور، أتردد لأنها حين أتكلم معها تحملق فى وجهى بنظرة استغراب وابتسامة رضا. دائما ودودة ودائما تفعل ما تريد وغالبا ترد بما لا نتوقعه».
جرت عادتنا فى تلك الأيام، كبارا وشبابا وأطفالا، على أن نقضى أمسية بين الحين والآخر لمشاهدة حفنة من الأفلام المصرية والأمريكية فى دار السينما الصيفية الأقرب إلى منازلنا، نعود منها بعد منتصف الليل على دفعات. ذات أمسية استجبت لرغبة منها فتباطأت خطواتنا أثناء العودة حتى صرنا وحدنا فى ذيل المجموعة. همست تطلب منى أغرب طلب. طلبت أن أصطحبها مساء اليوم التالى لتقابل فى وجودى أحد مشاهير لعبة كرة القدم من أبناء الحى. كان أكبر منا سنا وكنا نفخر بأنه من عندنا ولكنه ليس منا، وهذه قصة أخرى من قصص الحى ليس مكانها هنا. بررت طلبها بأن الشاب يثير فضولها، وهى لا تعرف كيف تكتم فضولا. رأيت وتعلمت عجبا. رأيت كيف إذا اجتمع للمرأة ذكاء وجمال ودلال «خر» غرور أقوى الرجال تواضعا. بادرته بالقول إنها أحست بأنه يريد قضاء وقت معها أجاب متلعثما، نعم كيف عرفت؟. نعم أرغب فى أن نتحدث فى أمر يخصنا. قالت أعرف كل شىء، ستأتى إلى منزلنا غدا لنتحدث، وستكون فرصة ليتعرف أهلى على نجم تظهر صوره فى الصحف.. أعلنت نهاية المقابلة حين استدارت ناحيتى قائلة «تعبناك معانا». أمسكت بيدى بقبضة فيها تشبث لم تخطئه عين النجم اللامع. افترقنا أمام شقتها على قولها «انتهى الفضول. أطفأتهما معا، فضولى وغروره. لن يعود. أشكرك يا جارى العزيز».
***
أفعل أحيانا ما يرضى أولادى وأحفادى. أكسب برضاهم نصائح أقل. أعيش هذه الأيام مرحلة اكتمال دورة العمر. كنت أنصح بكثرة وكانوا صغارا، هم الآن ينصحون بكثرة. لا ألومهم ولا أعاتب ولا أذكرهم بنصائح كنت أغدق عليهم بها أحمد الله أنهم لم يأخذوا بها. نزلت عليهم ضيفا وكان الموسم صيفا والموقع شاطئا من شواطئ ما صار يعرف بالساحل. اسم يساوى للأسف عند مصريين أكثر ما يساويه وادى الملوك فى الأقصر وأبى الهول وأهراماته فى الجيزة وضفاف النيل عند أسوان. استجبت للنصيحة ورحت «أتمشى». لا هدف. أخفيت أننى إن قابلنى مقهى أو مقعد على رصيف فسوف أجلس. لن أتردد. وهو بالفعل ما حدث عندما وجدت نفسى اقترب من مقهى مفتوح الجنبات. اخترت مائدة قريبة من الماء وبعيدة عن مكبر الصوت وعن الضوء المبهر. طلبت مشروبا قيل إن قليلين فى مصر هم الذين يجيدون نطق اسمه المطبوع فى قائمة مشروبات ومأكولات المقهى.
***
انشغلت عما يدور حولى بالتفكير فيما يخصنى مباشرة وليس من أمور الدولة والمجتمع. وصل المشروب الذى طلبت لأكتشف بعد الرشفة الأولى أنه لا يستحق اسمه الغريب جدا ولا الثمن الأشد غرابة. عاد النادل بعد قليل ومعه سيدة تجاوزت منتصف العمر حتى امتد الشيب إلى بعض شعرها. اعتذرت عما أسمته اقتحام وحدتى واستأذنت فى اصطحابى لألتقى بسيدة متقدمة فى العمر تريد التحدث معى وتجد صعوبة فى الحركة وإلا أتت بنفسها. نهضت بصعوبة تعودت عليها ومشيت متثاقلا. يسمون الاثنين، النهوض بصعوبة والمشى متثاقلا، يسمونهما تأدبا، النهوض والمشى بوقار. استقبلتنى السيدة بابتسامة اعترف أننى لم أقابل بمثلها من قبل. ابتسامة تبعث برسائل عديدة فى لحظة واحدة، رسالة اعتذار، ورسالة فرحة حقيقية كفرحة طفل، رسالة فوز وانتصار على سمعة كبار السن، رسالة شوق لمستحيل لا يعود وحنين لأشياء لم يتسع الزمن لها لتتبلور، ورسالة بحضن كان ليتحقق لو لم يتدخل القدر بفعل من أفعاله أقعدها قبل أن نلتقى.
***
بادرتنى فقالت «رأيتك من شباك غرفتى يوم وصولك. شعرت على الفور أننى أعرفك. هذا الوجه بابتسامته لا يجود الزمن به أكثر من مرة. بعثت بصديقتى المقيمة معى لتتقصى. عادت باسمك وتفاصيل عائلتك. من حسن ظنى أنك قررت تخرج لتتريض. رأيتك تخرج فقررت اللحاق بك وأفلحت. أراك تجهد فكرك لتعرف من أكون بالنسبة لك. أنا فى مخيلتك ولكن ليس على طرف لسانك. أنا جارتك. وبكلمات ثلاث أدق، أنا سمية بنت الجيران. تفضل بالجلوس إن لم يكن عندك ما يمنعك». جمعت أغراضى وعدت أحملها ومشروبى ثقيل الظل. شعرت بها تتابع بنظرها خطواتى ذهابا وإيابا. لم تنتظر حتى أجلس. استطردت تكمل حكايتها عن السبعين عاما منذ افترقنا. «كل ما أذكره الآن عن آخر لقاء لنا أنك وشبان الحى احتفلتم بتخرجك من الثانوى وأقامت أمك حفلا كبيرا. ما لن تذكره لأنك لم تدع إليه ولم تستشر فيه هو حفل قراءة فاتحتى وخطبتى ثم زواجى بدون إعلان وسفرى إلى السعودية. نعم اختفيت ولم أودع الجيران ولا أصدقاء وصديقات الحى. قضيت عاما فى السعودية عدت فى نهايته لأضع طفلى الأول. أجرنا بيتا أقمت فيه شهورا مع الطفل سافرت بعدها إلى السعودية لأحمل وأعود إلى القاهرة لأضع طفلى الثانى. مرت سنوات ثلاث أخرى قضيتها فى السعودية مع الطفلين وزوج بالكاد أعرفه. فى نهايتها سألنى زوجى إن كنت أمانع فى أن أعيش مع الطفلين فى القاهرة مرفهة، ويعيش وحده فى السعودية متقشفا لحين تكتمل الثروة المنشودة. لم أمانع. ولماذا أمانع وأنا أعرف أننى إن غبت عن المكان فلن أحن إلى شىء أو إنسان».
***
كعادتى لا أقاطع. كانت هى التى قاطعت نفسها لتطلب كوبا من اليانسون وتعرض علينا مثله. اعتذرت عن اليانسون بحجة تمسكى بمشروبى المعذب. قالت «هكذا كنت ونحن صغار. كنت دائما تحتضن أشياءك الصغيرة وتعرض علينا احتضانها بعدك. تلك الأيام تعود الآن بوضوح غريب وأنت أمامى والذكريات تتلاحق فى مخيلتى. ذكريات بالألوان تطارد الذكريات الباهتة التى كنت على وشك أن أنقلها لك عن أيام زواجى التى قضيتها مع زوجى هناك وأيام زواجى التى قضيتها بمفردى هنا. على فكرة أحب أن أؤكد لك، كما أكدت لمعالجى قبل أيام، أن لا فارق يذكر بين أيام هناك وأيام هنا. كان الزوج فى الحالتين كأن لم يكن. لا أحب أن أرددها ولكنها شكلت لغز السبعين عاما، وهو اللغز الذى يسعى لحله معالجى الأستاذ المعروف ويطلب منى مساعدته بأن أرددها، فأقول لك إن طفلى الثانى كان آخر ثمرة اشترك فى صنعها هذا الزوج. حتى ثروته التى قضى أكثر عمره يكنزها ولم نعلم عنها شيئا أولادى وأنا حتى فارق الحياة، وعلى كل حال لم نستطع استعادتها من سارقيها، وأغلبهم نافذون. فات أن أخبرك أن ابنى وبنتى سافرا للدراسة وهما فى سن المراهقة ويعودان فى زيارات خاطفة يقضيانها فى فندق قريب من البيت الفسيح اللذين ولدا فيه وأقيم بمفردى فى إحدى غرفه. ترعانى مرافقة».
«قلت لمعالجى وأقول لك الآن، إن الفتاة التى كانت تعرف وهى مراهقة بأنها تملك الشجاعة والقدرات التى تؤهلها لتجعل من فراشها مصدر سعادة أبدية لها ولدنياها ولرجل تختاره، هذه الفتاة عاشت لسن الثمانين تكره فراشها. تارة تراه وقد احتله الغاصبون وتارة أخرى وقد عصفت به الأعاصير وتارة ثالثة وقد انشق عن غابة من الأشواك والأغصان المهترئة. ليالى كثيرة افترشت فيها الأرض أو نمت فى غرفة مرافقتى».
«أمس الأول، وبعد تناول العشاء سبقت مرافقتى إلى غرفتى، نهضت قليلا من مقعدى المتحرك لأفتح باب غرفتى. انفتح الباب. دفعته بقدمى ودخلت لأجد نفسى وسط الغرفة وفراشى أمامى وقد تمدد بطوله فأر بحجم رجل تستجدينى شواربه أن أنهض وأصعد إلى فراشى وأتمدد بجانبه. لم أصرخ. تجمدت أطرافى ولسانى قبل أن أفقد الوعى».
***
مدت يدها تودعنى وهى تقول «جارى الأقدم والعزيز. سألت أهل المعرفة والعلم. قيل لى تعيش الرغبة سبعين عاما وأكثر. إن أشبعت المرأة بعضها بالحب والمودة عاشت بقية حياتها فى وئام مع الرجل حيا أو صورا فى ذاكرة، وإن قمعت مبكرا أو أهملت عاد دائما يجول فى غرف نومها فى شكل وصفات حيوان قمىء ومكروه».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved