مازالت أسطورة المرأة «الأفعى» تتحكم في عقل طالبان!

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الجمعة 8 أكتوبر 2021 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

 

تُعرف الأسطورة بأنها حكاية مقدسة، وتعتبر أحد المكونات الأساسية لأى دين، وتتكون من مفاهيم مهمة لكل مجتمع، وتتعلق بما هو مقدس وخارق للعادة، والدين هو المصطلح الأوسع الذى يجمع الأساطير والطقوس الدينية، وإذا تم الفصل بين الدين والأسطورة، فصِلَتها بالمجتمع تضعُف، وتقل أهميتها المقدسة وتصبح «خرافة»، ولهذا تحتل الأساطير جزأً كبيرا من اللا وعى فى العقل الجمعى منذ بداية الخليقة، ومازالت هذه الأساطير تتحكم فينا حتى الآن باللا شعور.
وأول أسطورة عرفها الإنسان متعلقة بطرد آدم وحواء من الجنة، وكانت بطلة هذه الأسطورة (كما هو منصوص عليه فى كل الديانات السماوية) «الأفعى» أو «الحيَّة» التى غوت حواء (المرأة الأولى) بالأكل من الشجرة المحرمة، فكانت سببا فى طردها ومعها زوجها آدم من الجنة، ومن ثَم طُردت البشرية جمعاء من نعيم الجنة إلى حين، ومن هنا كانت الأفعى دائما ومازالت رمزا لسرقة الحياة الأبدية الخالدة والهانئة من الإنسان، هكذا ارتبطت صورة الأفعى بالمرأة فى عدد غير قليل من العقائد، ولدى كثير من الناس.
وقد لعبت «الأفعى» دورا بارزا فى أساطير العالم، فهى أحيانا تظهر بمظهر الخير، فأصبحت شعارا للدواء، وعلامة للاستشفاء، ولهذا أخذتها هيئات علوم الصيدلة شعارا لها، باعتبار أن السُّم الذى تُفرزه فيه دواء لأمراض كثيرة، ولهذا سُميت بـ«الحيَّة» لأنها باعثة للحياة، ولكن أعداء المرأة أخذوا من الأفعى المظهر الشيطانى، فهم لم يعتبروها سُمَّا للداء، ولكن اعتبروها أذيَّة وضررا للرجل وللبشرية! فـ«الحيَّة» فى التراث اليهودی والمسيحى، على سبيل المثال، ترمز دائما إلى الشر أو الشيطان، ففی سفر التكوين نقرأ: «فقال الرب الإله للحية لأنك فعلت هذا ملعونة أنتِ من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين، وترابا تأكلين كل أيام حياتك» (الإصحاح الثالث: 14).
وعند الإنسان القديم، أحاطت بالمرأة أساطير «خرافية» كثيرة، ففى العصور «البطريركية» أى «الأبوية» (عصور ما قبل الميلاد) ارتبطت صورة المرأة بالغواية وبالخيانة وبصراع الرجل مع الرجل، وهو ربط لا يمكن تجاهل جذوره التاريخية بحكاية الخطيئة الأولى التى نُسبت للمرأة، ولعل أشهر هذه الأساطير التى رسخت هذه الخلفية تلك المُسماة «بجماليون» Pygmalion، وهى شخصية أسطورية، أصولها إغريقية (821ــ774 ق م)، و«بجماليون» أيضا اسم أحد أعظم النحاتين الذى كان يكره النساء، ومن أجل أن يبتعد عن المرأة «الحيَّة» التى يكرهها صنع تمثالا من العاج لامرأة جميلة، وزينها بالملابس الغالية واللؤلؤ، فوقع فى حبها، ودعا إلهة الحب «فينوس» أن تحيى التمثال، فأحيَته، وسُمِّى التمثال الحى «جالاتيا» الذى يعرف بـ«تمثال الأنثى الخرساء»، وتزوجها وأنجب منها بنتا أسماها «بافوس».
وحكاية بجماليون الخرافية لها دلالاتها المُعبرة، فهى تعبر عن احتياج هذا النحات للمرأة، وعدم قدرته الابتعاد عنها، رغم إيمانه بأنها «شَر»، ولهذا نحت تمثاله، ولكنه عندما وجد «جالاتيا» خرساء، وبدون روح استعان بآلهة الحب لتضع فيها الروح، وكان هذا لتحقيق هدفه ورغبته فى خلق نموذج لامرأة على هواه، ومع أن بجماليون هو الذى خلق «جالاتيا» لكنه لم يستطع التخلص من أوهامه بأن المرأة مصدر كل شر، ولذلك أنهى أسطورته باكتشافه خيانة «جالاتيا» له مع رجل آخر، وانتقاما منها طلب من الآلهة إعادتها إلى تمثال، ثم حطمه، لتنتهى هذه الأسطورة بالإشارة إلى أن المرأة فى كينونتها الحيَّة لا يمكن أن تتغير طبيعة الشر فيها، وأن الخطيئة مرتبطة بها دائما وأبدا!
•••
كانت هذه نظرة الرجل القديم عن المرأة، وأما نظرة الرجل الحديث، فهى لم تتغير كثيرا، سوى أنها ابتعدت عن الخرافات، فإذا ألقينا نظرة على التاريخ الحديث، نجد أن المرأة كان لها نصيب الأسد من التمييز العنصرى ضدها، وذلك حتى عصر قريب للغاية، وقد عبرت عن هذا سيمون دو بوفوار (1908ــ1986) بمقولتها: «الرجل يُعرف على أنه إنسان، والمرأة تُعرف على أنها أنثى، وحينما تتصرَّف المرأة كإنسان يُقال إنها تقلد الرجل!»، هذا ما استنتجته من حضارتها الغربية، فقد قرأت مقولة نابليون عن المرأة: «أنها ولدت لكى تُصبح عبدا لرجل؛ فالحرية والاستقلال ليس لها»، وقرأت أيضا المثل الشهير للروائى الفرنسى ألكسندر دوماس (1802ــ1870): «ابحث عن المرأة»، ويقال عندما تحدث مصيبة لرجل، فتوجه أصابع الاتهام إلى وجود امرأة وراء هذه المصيبة؛ وكذلك يقول كبير فلاسفة الإنجليز برنارد شو (1856ــ1950) عن المرأة: «جَمْع للهموم، وطرح للأموال، ومضاعفة للأعداء، وتقسيم للرجال، وأنها ظل الرجل وعليها أن تتبعه لا أن تقوده»!
هذه هى النظرة للمرأة عند الرجل القديم والحديث، وقد تبنت جُل الأديان هذه الصورة، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن الإسلام هو الاستثناء الذى أنصف المرأة عبر التاريخ، فهو لم يقُم بأى تمييز سلبى ضدها، وأمر بالعدل والمساواة بين جميع أنواع البشر، ولم يفرق بين الرجل والمرأة فى المكانة، كما جاء فى قوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (97 ــ النحل)، ولمن يكذبون هذا بدعوى أن الرجل له مثل حظ الانثيين فى الميراث، فهم يتجاهلون أن الإسلام أعفى المرأة من أى تكاليف مالية نحو نفسها وأبويها وأولادها، وكلف الرجل سواء كان الأب أو الزوج أو الابن بكل أعبائها المالية.
وفضلا عن هذا اعتبر الإسلام نظرة الرجل للمرأة بأنها أقل منه نظرة جاهلية، وقد أكدها سبحانه بقوله: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا» (الأحزاب: 35)، كما نلاحظ أن الخطاب القرآنى هو الأول فى تاريخ الإنسانية الذى يَذكر «المُذكر» و«المُؤنث» على قدم المساواة، ولا يجمعهما فى صيغة «المذكر» فقط، كما هو الحال فى كل اللغات!
لم يكتفِ الإسلام بمعارضته لأى تمييز سلبى ضد المرأة، فقد أعطاها حقوقا كثيرة حُرِمت منها على فترات طويلة فى تاريخ البشرية، ورغم ذلك فإن الجماعات المتطرفة تُنكر على المرأة مساواتها بالرجل باعتبارها «عورة» لابد من إخفائها، وسجنها فى بيتها لتلبى احتياجات الرجل من خدمة ومتعة، وهذا «المنطق المقلوب» أكدنا عليه فى مقالنا السابق «تعميم الخطأ وقلب المنطق باسم الدين»!
•••
ومن الغريب والمؤسف ما نشاهده ممن يفرضون وصايتهم علينا باسم الدين من المتطرفين، فهم يريدون فرض مفاهيمهم المغلوطة علينا، فيعملون عكس ما يطالب به الإسلام، نرى أعضاء طالبان يُنكرون وجود المرأة فى الحياة العامة، ويقصرون دورها على إمتاع الرجل وتلبية رغباته الجنسية، وهذا مرض نفسى، يسمى «الهوس الجنسى» (Sexual obsession)، ففور استلامهم السلطة، ألغوا وزارة «شئون المرأة»، واستبدلوها بوزارة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، بدعوى خدمة الإسلام، ولكنها فى الحقيقة وسيلة من وسائل اللعب بالدين لخدمة السياسة، فهى وسيلة لإسكات المعارضة، وفرض قيود صارمة على النساء، فقد منعوا خروج المرأة بدون «محرِم»، ومنعوها من الذهاب لعملها، وكوَّنوا حكومة ليس بها امرأة واحدة!
والهوس الجنسى ليس بعيدا عن الهوس الدينى، فقد منعت حركة طالبان صالونات الحلاقة من تشذيب اللحى أو حلاقتها، بدعوى أن إطلاقها يوافق الشريعة الإسلامية، ومنعوا كذلك حلاقة الشعر على «النمط الغربى»، وعدم سماع الموسيقى فى المحلات العامة، وفرضت عقوبات صارمة على المخالفين!
هكذا يتضح لنا أن ما يفعله أهل طالبان هو حقا عودة لعصور الجاهلية، وهذا عكس ما يدعيه أئمتهم أبو الأعلى المودودى وسيد قطب باتهامنا بأننا نعيش عصر «جاهلية القرن العشرين»، والحقيقة أن القرنين العشرين والواحد والعشرين يدعوان للعودة للمفاهيم الإسلامية الصحيحة فيما يخص المرأة!
ولعل أكبر دليل على أن دعوات الأصوليين تعود بنا للعصور الظلامية هو تطابق نظرتهم للمرأة مع أسطورة بجماليون، فى العصور القديمة والعصور الوسطى الظلامية، فهم لا يستطيعون الابتعاد عن المرأة، ولكنهم فى نفس الوقت لا يُغيرون نظرتهم الجاهلية عنها باعتبارها «الشر» كله، فلابد من تقيدها وحبسها وإذلالها حتى تكون دُمية فى يد الرجل، وبهذا يحققون شهواتهم منها دون أن يعترفوا بأى حق لها، كما أنهم يربطون «الخطيئة» بالمرأة فقط، ويتجاهلون دور الرجل فى هذه الخطيئة، إنهم يُبرِّئون الرجل ويلقون الخطيئة على المرأة وحدها!
فالرجل معتنق الفكر الأصولى هو رجل سادى، أحب المرأة مثل بجماليون الذى يسعى إلى تقيدها كى يستمتع بها، دون مقاومة منها، أو معارضتها له فى أى ناحية من نواحى الحياة؛ يريدها عبدا له، وهو أمر كما تذهب إليه أسطورة «جالاتيا» لن يتحقق إلا فى حالة تجريد المرأة من روحها، تلك الروح التى تمنحها قوة التحرر من خيال الرجل المتطرف السادى المريض، واستعباده لكينونتها.
ونخلص بهذا إلى أن الأصوليين المتطرفين، وأعداء المرأة يؤكدون ويناصرون أفكار «بجماليون»، إنهم يريدون امرأة خرساء بلا روح مثل «جالاتيا» التمثال الجامد، دون صوت أو موقف أو فكر؛ لأنهم يعلمون أن الصوت والموقف والفكر يحررها من قفص استعباده، وفى المقابل يُعادون ويهاجمون بل وينكرون حقوق المرأة التى نادى بها الإسلام الذى يخاطبوننا به!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved