إنقاذ إفريقيا عبر طريق التكامل!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الجمعة 8 نوفمبر 2019 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

إلى متى ستظل إفريقيا أسيرة لعمليات النهب المنظم لمواردها وثرواتها الطبيعية؟ وهل ستستمر هذه القارة ساحة لصراع المصالح بين الشرق والغرب؟ أم أن الخطوات التى قُطعت فى طريق تكامل بلدانها اقتصاديا ستحول دون استمرار هذا الوضع غير التنموى؟ ولكن ألا يبدو أن هذه الخطوات ما زالت قصيرة فى هذا الطريق الطويل، وأن التجمعات والتكتلات التى تطفو على سطح هذه القارة مجرد حبر على ورق؟!

***
يبدو أن المحاولات التى بُذلت لجمع شتات إفريقيا كانت أضعف من الأسباب التى خلقت هذا الشتات. فمنذ أن نالت بلدان هذه القارة استقلالها السياسى عن أوروبا وهى تجاهد لإحياء حلم «إفريقيا الموحدة». وما إن خفتت أصوات حركات الاستقلال السياسى، رأت هذه البلدان أن «إفريقيا المنقسمة» ما زالت تابعة اقتصاديا لأوروبا وأمريكا واليابان، وما زالت مواردها أسيرة لمصانعهم؛ أى أن التحرر السياسى الذى حصلت عليه كان مجرد «خداع مرحلى»، مادام لم يتمخض عنه تحرر اقتصادى؛ وأنه استقلال وتحرر شكلى، مادام لا ترجى تنمية من ورائه. وللتغلب على هذا الخداع، ما لبثت وفود بلدان إفريقيا فى الاجتماع فيما بين أقاليمها الجغرافية للبحث فى إمكانات التكامل الاقتصادى البينى، وللنظر فى فُرص تحررها من التبعية الاقتصادية. وتمخضت عن هذه الاجتماعات الإقليمية ستة تكتلات اقتصادية. فقد تأسس تجمع اقتصادى لدول غرب إفريقيا، وتأسس اتحاد اقتصادى لدول وسط إفريقيا، وتأسست السوق المشتركة للشرق والجنوب الإفريقى (كوميسا)، وتأسست منظمة (إيجاد) لبلدان شرق إفريقيا، وتأسس اتحاد المغرب العربى، وتأسس تجمع تنمية الجنوب الإفريقى. غير أن كل هذه التكتلات كانت هشة سياسيا، وضعيفة اقتصاديا؛ فمحصلتها جاءت مخيبة لآمال التنمية، كونها لم تبدل إفريقيا من بعد ضعف قوة، ومن بعد تشتت تكاملا!

***
ولم تكن مشكلة ضعف التكتلات الاقتصادية الإفريقية سببها الأول هو الداخل الإفريقى، على الرغم من أنه مسئول عن جزء أصيل منها. إذ إن هناك عوامل خارجية متعددة تسببت، وبطريقة مباشرة، فى نشوء هذا الضعف. ففى مقابل الحجة الشهيرة التى تقول بأن التكامل الاقتصادى محكومٌ عليه بالفشل إذا حدث بين دول متشابهة فى هياكل الإنتاج وفى طبيعة النشاط الاقتصادى (كما هو حال بلدان إفريقيا)، فيمكن ببساطة القول بأن النشاط الاقتصادى الذى تشكل فى هذه الدول قد حدث بفعل فاعل خارجى؛ حينما وضعها نظام التخصص وتقسيم العمل الدولى فى موضع المنتج للمواد الخام، وفى موضع سوق التصريف لما ينتجه العالم المتقدم من سلع وخدمات. ولذلك، فإن هذا الفاعل الخارجى مسئول عن أول وأهم أسباب ضعف التكتلات الاقتصادية فى إفريقيا.

ولما كان من المعلوم أن استمرار سيطرة الدول المتقدمة على منابع المواد الخام سيتهدد بشدة إذا تعاونت أو تكاملت الدول المالكة لهذه المواد الخام؛ فإن الدول المتقدمة ستقف بالمرصاد لأى محاولات تكاملية قد تضر بمصالحها الاقتصادية. وما تجربة «أوبك» عن الدول المتقدمة ببعيدة. فعندما استطاع منتجو النفط التعاون (ولا أقول التكامل) لفترة وجيزة من الزمن (بداية من العام 1973)، انقلب النظام الاقتصاد العالمى رأسا على عقب خلال تلك الفترة، وتوقفت عجلات المصانع المتقدمة عن الدوران، واهتزت الأسواق العالمية هزة أفقدتها الاستقرار الذى تمتعت به لعقود طويلة قبل هذا التعاون. ولمنع تكرار ذلك، ولأن الدول المتقدمة تتعلم الدروس جيدا، سعت هذه الدول فى وأد محاوت التكامل بين البلدان النامية المحظوظة بالموارد الطبيعية التى تحتاج إليها مصانعها. وكانت أشهر عمليات الوأد من نصيب إفريقيا؛ فكيف تترك فرصة التكامل للدول الإفريقية المالكة لاحتياطيات العالم من البلاتين، والماس، والذهب، والكوبالت، والحديد، والمنجنيز، واليورانيوم... إلى آخره من ثروات وكنوز؟!

كما أن التنافس والشقاق الحاصل بين الشركات الدولية فى ساحات التجارة العالمية، سيُرى أثره فى أسواق الدول الإفريقية التى تدور فى فلك هذه الشركات، وستضعف وتتعطل بسببه إجراءات الاتحاد والتكامل فيما بين هذه الدول. ففى سوق مشترك يسعى لتحقيق منافع تنموية لإقليم إفريقى ما، ستظل فاعلية هذه السوق محل شك، مادام اللاعبون الأساسيون فيه من خارج بلدان هذا السوق، أو كان اللاعبون المحليون أقل قدرة على منافسة القادمين من الخارج. وسباق محموم على السيطرة على أسواق إفريقيا من شركتين دوليتين، يمكنه أن يقيد من قدرات الشركات الإفريقية المحلية، أو يفقد هذه الشركات المزايا المترتبة على تكامل بلدانها الإفريقية، ويفرغ هذا التكامل من مضمونة التنموى.

***
وقد ازدادت العوامل الخارجية المعطلة لنجاح التكامل الإفريقى بقدوم الصين إلى حلبة الصراع فى إفريقيا. فنحى عنك ما يُقال حول استهداف الصين لتنمية إفريقيا؛ فهو قول أبعد ما يكون عن المنطق والواقع. فالصين ــ شأنها شأن باقى اللاعبين الرئيسيين فى العالم ــ تضع مصالحها فى المقدمة، وتبحث لنفسها عن موضع قدم بجوار كنوز إفريقيا. وبالتالى، فإن مجيئها لإفريقيا هدفه الأساسى هو ضمان وتأمين حصولها على المواد الخام الإفريقية الرخيصة، وفتح أسواق إفريقيا أمام منتجاتها. ولئن كان التواجد الصينى فى أسواق إفريقيا يهدد، بطبيعة الصراع الدائر عالميا، التواجد الأوروبى والأمريكى واليابانى، فإن نتائج هذا الصراع قد تضر بالسياسات التجارية الوطنية لبلدان إفريقيا، فتزيد من ضعف التكتلات الإفريقية، وتقلل من منافع التكامل بين هذه البلدان.

ثم إن قدوم الصين إلى إفريقيا جاء متزامنا مع بدايات أزمتها التجارية مع الولايات المتحدة. وهى أزمة سيكون لها صدى فى أسواق إفريقيا دون ريب. فهب أن استثمارا صينيا يعمل على الأراضى الإفريقية، وينتج منتجات تصدر عالميا خارج إفريقيا؛ فإن إجراءات الحماية التى تقودها الولايات المتحدة ضد منتجات الصين، ستقلل من فرص نجاح هذا الاستثمار فى ولوج الأسواق العالمية، وستجعله متجه بالأساس للأسواق المحلية الإفريقية، ومستفيدا من المميزات التى تخلقها الأسواق المشتركة الإفريقية. وإذا لم تتمكن الشركات المحلية من محاكاة هذه الاستثمارات الصينية، ولم تقدر على منافستها فى الإنتاجية، ستظل للشركات الصينية اليد العليا فى هذه الأسواق، ولن تختلف حينها عن شركات الدول المتقدمة المسيطرة على أسواق إفريقيا.

وإذا أضفنا للمعطلات الاقتصادية الخارجية السابقة، مُفرقات سياسية خارجية بادية لكل ذى عينين، ستصبح الصورة الإفريقية أكثر وضوحا، وستكشف لنا إلى أى مدى يُسأل الخارج ــ الاقتصادى والسياسى ــ عن ضعف التكتلات الاقتصادية الإفريقية بحالتها الراهنة. بيد أن التحليل المنصف لضعف هذه التكتلات، سيلقى بجزء أصيل من اللوم على الداخل الإفريقى. فهذا الداخل هو المسئول عن ترهل البنى المؤسسية والبنى التحتية المطلوبة لنجاح وازدهار مثل هذه التكتلات. وهذا الداخل مسئول عن تنامى دور جماعات المصالح المحلية التى تعرقل خطواته للتكتل والتكامل، أو التى تتعاون مع المعطلات الخارجية وتزيدها قوة إلى قوتها الكابحة لهذه الخطوات. كما أن هذا الداخل مسئول عن الصيغ التكاملية الضعيفة التى تتسم بها التكتلات الإفريقية الحالية؛ تلك الصيغ التى لم تقدر على مقاومة المعطلات الخارجية، ولم تتمكن من الاستفادة من الفرص التى يخلقها الشقاق بين الدول الخارجية والشركات الدولية.

***
وسط المعطلات الخارجية والقيود الداخلية الرابضة فى طريق التكامل الإفريقى، تظل فرص تحرر إفريقيا من التبعية الاقتصادية قائمة. غير أن اقتناص هذه الفرص يضعف بمرور الوقت، ويتبدد بنضوب احتياطيات الموارد الطبيعية من باطن أراضيها. ولذلك تحديدا، يمكن القول بأن فرص تحرر إفريقيا من ربقة التبعية مرهونة بسرعة إنقاذ ما تبقى من مواردها الطبيعية!

وأيا كان الأمر، ولأن التحليل السابق قد أفاض فى شرح العوامل الخارجية والداخلية التى حالت دون نجاح التكتلات الحالية فى وقف النهب المنظم لموارد إفريقيا، فإن نفس التحليل يمكنه أن يرسم الطريقة السليمة لإنجاح هذا التكامل فى المستقبل. فما دام الخارج مسئولا عن ضعف التكتلات الإفريقية الحالية، فإن هذه التكتلات ستقوى إذا تمكنت بلدان إفريقيا من مقاومة تأثيراته المختلفة. ونقطة البداية الصحيحة فى هذه المقاومة ستكون بالتعاون الإفريقى ــ الإفريقى فى وقف استنزاف الخارج لمواردها الطبيعية؛ إما بتكامل الشركات المحلية فى مجالات الاستثمار والإنتاج والتصدير للسلع المصنعة من الخامات الإفريقية، أو بفرض ضوابط تنموية على شركات التنقيب الدولية، وإلزامها بزيادة حصة بلدان إفريقيا من سلاسل التصنيع العالمية فى الصناعات المعتمدة على خامات إفريقية، أو نقل وتوطين ما تملكه من تكنولوجيا للبلدان الإفريقية ولشركاتها الوطنية. وبذات المنهجية، فإن النقطة الثانية فى المقاومة الإفريقية للعوامل الخارجية المعيقة لتكاملها، هى أن تتحد بلدان إفريقيا فى سياساتها التجارية أمام الشركات الدولية التى تستهدف أسواقها، وأن تفرض على تلك الشركات زيادة نصيبها من سلاسل التصنيع العالمية للسلع التى تنتج لتباع فى أسواق إفريقية.

وإذا شرعت إفريقيا فى المقاومة الحقيقية للمعطلات الخارجية للتكامل الاقتصادى، فلتستعد لمقاومة عكسية داخلية من المستفيدين من استمرار الأوضاع الحالية، ولتعلم أن مقاومتها للمعطلات الخارجية ستكون فعالة فقط إذا تمت بصورة جماعية منظمة. إذ فى هذه الحالة سيصعب على الدول الخارجية والشركات الدولية الانفراد بكل دولة على حدة (مثلما يحدث حاليا)؛ وسيجد هذين الطرفين نفسيهما مجبرين على تقديم تنازلات حقيقية للتيار الإفريقى المقاوم.

وشروع إفريقيا فى تكسير القيود الداخلية المعيقة للتكامل الاقتصادى، يتطلب منها التعاون فى تدبير التمويل اللازم لتطوير البنى التحتية للتكامل الإفريقى (مثل الطرق ووسائل النقل وشبكات الكهرباء)، ويستدعى تركيز جهودها فى القضاء على المعوقات المؤسسية المعطلة لهذا التكامل، ويدعوها للتعلم من براعة بلدان قارة أوروبا فى إعداد وتنفيذ صيغة تكاملية ناجحة.

***
إن المسألة الجديرة بالتدبر والتأمل الآن، هى أن معاناة قارة إفريقيا من التبعية الاقتصادية قد هوى بطموحاتها لمجرد التحرر من هذه التبعية، وجعلها تتمنى أن تبدأ السير فى طريق التنمية الطويل؛ رغم أن دولا عديدة قد اقتربت من نهاية هذا الطريق بنهب موارد هذه القارة. ولذلك، سيظل حلم إفريقيا القوية والموحدة يراود أبناء هذه القارة السمراء (والمصريون فى القلب منهم)؛ لتيقنهم أن إنقاذ إفريقيا ووقف استنزاف مواردها الطبيعية لن يتم إلا عبر طريق التكامل، ولوعيهم أنه مهما كانت درجة الضعف والفقر الحاليين، فإن الاتحاد والتكامل هما أساس التنمية الاقتصادية. فاتحاد الضعفاء قوة، وتكامل الفقراء غِنى!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved