«ستديو ناصيبيان».. روح المكان

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الإثنين 8 نوفمبر 2021 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

للأماكن أرواح، تنام وتصحو، يعلوها التراب حينا، وقد تجور الطبيعة على حوائط مبانيها حينا آخر، وربما تشيخ ذات يوم، لكنها لا تموت ما بقيت فى ذاكرة الإنسان نابضة بالحياة، نستدعيها لشحذ همة، أو تخليق فكرة قد تغير من حال إلى حال، هكذا يجب أن نحتوى الصدمة الكبيرة، والحزن العميق الذى خلفه الحريق الذى دمر مسرح ستديو ناصيبيان، المعروف بمسرح «جيزويت القاهرة» قبل أيام.
المسرح الذى التهمته النيران عشية الأول من نوفمبر 2021، لا يجب أن يكون أثرا بعد عين، فكل هذا الحب وهذا التقدير الذى تداعى إليه المثقفون والفنانون والشباب ممن ارتبطوا بالمكان على مدى سنوات طويلة، سيعيد إلى مسرح ستديو ناصيبيان الحياة من جديد، بينما ستحتفظ القلوب قبل العقول بذكرياتها مع معلم حضارى كان، وسيظل، رافدا لنهر الثقافة المصرية الأصيلة.
فمنذ أن اشترت الرهبنة اليسوعية ستوديو ناصيبيان أواخر السبيعنيات من القرن الماضى، وخصصت جزءا منه ليكون مكانا تنطلق منه جمعية النهضة العلمية والثقافية «جزويت القاهرة» والتى حولت هذا الجزء من الاستديو بدورها فى بدايات الألفية الثالثة إلى «مسرح ستوديو ناصيبيان»، أصبح المكان بؤرة ثقافية بعد أن كان مرتعا للفئران، ومكبا للنفايات، إثر هجرة مؤسسه المصور الأرمنى هرانت ناصيبيان، عقب ثورة يوليو 1952، تاركا خلفه سجلا حافلا من أشهر الأعمال السينمائية المصرية التى لا نزال نستمتع بأداء أبطالها العظام.
هنا وقفت زبيدة ثروت أمام عمر الشريف فى «بيتنا رجل» الذى أخرجه هنرى بركات وعرض فى مطلع عام 1961، ومن هنا مر فريد شوقى وسهير رمزى، فى الغضب عام 1972، وبين جنبات الاستديو نفسه غنى عبدالمنعم مدبولى فى «مولد يا دنيا» عام 1976 «طيب يا صبر طيب»، كما أن فيلم «باب الحديد» للعبقرى يوسف شاهين، وهنومته الجميلة «هند رستم» خرج إلى النور من شارع الفجالة حيث يقع ستديو ناصيبيان على بعد أمتار من ثانى أقدم محطة سكك حديد عرفها العالم.
قائمة الأعمال السينمائية التى حفرت عميقا فى ذاكرة العديد من الأجيال المصرية، وجمعها ستديو ناصيبيان، طويلة، والتى لا مجال هنا لسردها، تجعل بكاؤنا حارا على ضياع جزء عزيز من تاريخ الفن السينمائى المصرى، الذى جاءت جمعية «جيزويت القاهرة» لتبنى عليه مشروعا ثقافيا متشعب المجالات، يجب دعمه ومساندته بكل الطرق والإمكانيات المتاحة.
وحسب زميلنا الكاتب الصحفى المدير التنفيذى لـ«جزويت القاهرة» سامح سامى، فقد «بدأت جمعية النهضة العلمية والثقافية كمبادرة صغيرة فى عام 1998، ونمت لتصبح مكانا مشهودا له يوفر للناس تعلم الفنون، ويقدم المساحات اللازمة لإنتاج فنونهم بحرية، عبر أربع مدارس فى تعليم السينما، والرسوم المتحركة، والمسرح، والعلوم الإنسانية بالإضافة إلى أنشطة أخرى تستهدف مساعدة الشباب فى التعبير عن قضاياهم وقضايا المجتمع المصرى».
وعبر العديد من الندوات التى استضاف فيها الزميل هشام أصلان مدير صالون الجيزويت الشهرى، قمم الثقافة والفنون فى مصر وبينهم المثقف الكبير الدكتور محمد أبوالغار، والناشر الكبير المهندس إبراهيم المعلم، والروائية سحر الموجى، والمخرج داود عبدالسيد، وغيرهم، تعرفنا على أفكار وتيارات متنوعة تعكس ثراء المجتمع المصرى، وقدرته على الإبداع وتحدى اللحظة التى تمر بها مصر فى ظل ما يعترى محيطها العربى والإقليمى من مخاطر.
العطاء الذى تقدمه «جيزويت القاهرة» يفسر الانتفاضة الواسعة وسط المثقفين والفنانين، التى تطالب وزارة الثقافة أولا، ورجال الأعمال ثانيا، ومحبى الفنون ثالثا، بمساندة ودعم نشاط جمعية اختارت التنوير دربا للحياة.. وحتى تواصل «جيزويت» دورها فى «تمكين فئات الشباب المهمشين من صناعة الفنون فى القاهرة والمحافظات، خاصة الصعيد».
وكما قال شاعر الإسكندرية وابنها اليونانى الأشهر كفافيس ( 1863ــ 1933) تعلقا بمدينته المحبوبة «حافظى عليها، يا ذكريات، كما كانت»، نقول حافظى يا ذكريات على مسرح ستديو ناصيبيان كما كان، صرحا للثقافة والفنون، ومصنعا لصقل المواهب الشابة، وطريقا لمحاصرة القبح فى حياتنا، و«المساهمة فى العدالة الثقافية وحرية التعبير».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved